الصفحة الأساسية > العربية > ف > فلسفة إسلامية

فلسفة إسلامية

وجوانبها الإنسانية

كل اصدارات هذا المقال: [عربي] [français]


أدّى توسع الامبراطورية العربية الاسلامية ابتداء من القرن الثامن الميلادي ووصولها الى شعوب منطقة الشرق الاوسط، الذين كان من بينهم أباء كنيسة ورجال دين مثقفين يحملون رصيدا ثقافيا مع مزيج من الفكر اليوناني، ادى وصول المسلمين الى هاته المناطق الى اعتناق هؤلاء للاسلام مع احتفاظهم بثقافتهم الدينية ذات العناصر اليونانية في حين حافظت الاديرة المسيحية على ترجمات السريانية التي انجزها هؤلاء الاباء عن اليونانية. صاحب هذا الانتاج الفكري الاولي في القرن الثامن الميلادي الذي انتجت خلاله عناصر من هذا التراث دون ان تتخلى عن طابعها الديني، فقد استوعب المسيحيون في فترة مبكرة المصطلحات المنطقية من اجل الدفاع عن المسيحية. بالنسبة للمسلمين فإن اكبر مشكلة ستواجههم هي اللاعقلانية القرآن بالتالي لم يجدوا امامهم الا تلك المصطلحات التي استخدمها المسيحيون من أجل الاعتماد عليها في مجادلاتهم وأظافوا عليها كتب ميادين أخرى مثل(علم النفس، الاخلاق، الطبيعة...)، من اجل الوقوف على مواضع التناقض في القرآن. على كل حال فإن العلوم اليونانية استقدمت وارتبطت لاغراض ذات الطابع الديني.

 الفلسفة، الحقيقة والتطور

تطورت الامور وتغيرت مع ظهور علم سيستفيد من هذه المواد في ذاتها. وفي الوقت ذاته يتطور- وبلا شك في التفاعل مع- عملتنامي ترجمة النصوص العلمية والفلسفية اليونانية الى العربية. الفلسفة كقمة للعلوم ويعود الفضل في ظهورها عند المسلمين، للمسلم العربي ابو يوسف الكندي( حوالي 185ه/801م-252ه/866م)، العالم اساسا. في حين ان العالم العربي لم يمتلك تقاليد الا في الميدان الادبي، واما بالنسبة للعلوم فانهم يعتمدون ويتبعون كليا للعصر الهلنستي. وهنا ندرك تغير الاسشراف من خلال اضافة لفظ فلسفة الى جانب اللفظ التقليدي حكمة كتعريب لكلمة فيلوصوفيا اليونانية، وبنفس الطريقة اصبح فيلوصوف فيلسوف لفظ سيخضع لعملية تعريب اعمق عندما يبتكر جمع مقابل المفرد فلاسفة، لم تكن هناك اي قطيعة مع المنظور الديني من وجهة نظر اشكالية، ولكن ذلك احدث خللا منهجيا في العلاقة بين المادة والايطار قد تغيرا في موقعهما. يمكننا ان نعرف الفلسفة على انها فرع من العبير العربي الذي يستند اولا الى الموروث الهلنستي..

وطيدة الى درجة تنصله من الدين الرسمي للامبراطورية الاسلامية. تمكنه من مهنة الطب وفر له حماية كبيرة امام كل معارضيه استغل تلك الحماية في التعبير عن ارائه الاكثر تطرفا في نظر منتقديه، كرفضه كل اشكال النبوة لصالح المساواة بين البشر. في هذا الايطار اشتهرت مناظرته مع احد شيوخ السماعلية يطرح فيها كل منهما تصوره الخاص للعالم الذي يكون مسيرا من حكيم غير انهما يختلفان في نظرتهما الى الحكمة وذلك كما يلي: يطلق الشيخ الاسماعيلي من ان حدسه وملاحظته الشخصية اليومية، ان الحكمة تتجلى في التقسيم التراتبي للانسانية كما يؤكد على أن اللامساواة بين البشر امر طبيعي نراه في التكافل بين الناس ومساعدتهم لبعضهم البعض، وبالتالي وجوب خضوع الاضعف منهم للاقوى. أما طبيبنا- الفيلسوف فقد رد على هذا التصور بالنظر الى مقومات الوعي وكانه يقول لمعارضه" من سمح لك بمثل هذا القول لأنه يعني ضمنا ان كل حكمة هي احتمال مشاركة مباشرة عن طريق الالهام الشخصي، وإلا فإننا سنجد أنفسنا في حالة صراع عامة كل فرد يرى ان مولاه هو الافضل. يطالب الرازي بمساواة مطلقة بين الناس في القدرة على التعلم والتفكير وإذا ما كانت هناك فروق فردية فسببها يعود الى مقدار عناية كل واحد بتحصيل المعرفة واختلاف العناية بطلب المعرفة من فرد الى آخر مما يؤدي الى الاختلاف بين الناس. وعندما يجيبه مناظره انه يتحدث عن نفسه معتبرا إياها أعلى شانا من غيرها من الانفس بأن علو شانه يكمن في تمكنه من مادة درسه بالمقابل يعترف بدناءته في ميادين أخرى كالمهن اليدوية مثلا، مهن يبدي ممارسوها ذكاء خارقا، ذكاء كان ممكنا استثماره في العلوم النظرية لو أن ظروف هؤلاء قادتهم الى ذلك وهكذا يواصل الرازي فكرة التقدم التي ذكرها الكندي في منشوره. لا توجد الحقيقة من جهة والغلط من جهة اخرى. مثل المفهوم الذي يخصصه البعض لمعنى الوحي الديني مع ذلك هناك مسعى مستمر من أجل إكتشاف اكبر وأهم. ولكن تبقى تقترب من الحقيقة على الاقل. عندما الف الرازي كتاب الشكوك حول جالينوس" اي خضوع جالينوس نفسه في مقاطع كثيرة من كتبه يقول:"تمييز وتصنيف العلوم التي لم يميزها أو يصنفها القدماء كل حقيقة نصل اليها هي حقيقة جزئية، تستدعي التصحيح والاصلاح. ينطبق هذا على الفلسفة لأنها تقف على الاختلاف بين الفلاسفة وهذا ليس الا علامة على حماستهم في البحث. فالفلسفة اذن ليست مسالة مدرسة او نحلة. نمو الفلسفة هو المحرر والضمان للخلود والاستمرار. ألف الرازي في أواخر حياته مختصرا سماه "السيرة الفلسفية" يظهر فيه نظرته الوضعية للعالم، آخذا شخصية سقراط رب الاسرة والمواطن المثالي عكس باقي اليونانيين لا يبحث عن الخلاص من خلال الاخلاق فالانسان لا يحصل على النعيم في العالم الهنا، ولكنه يتحضر بفعل الظروف المحيطة به من اجل بلوغه في عالم الهنالك وهذا للتخلص من كل العوائق سواء برغبة زائدة او ناقصة[كرغبة الزهد والالم الذي لا ضرورة له].

الرازي حالة شاذة في العالم الاسلامي، ليس فقط ما تعلق منها من ثقته في العقل الانساني مهما كانت ورفضه للنبوة من طرف الانسان المثقف بل تعداه الى حد اعمق من هذا ميتافيزيقا التي تخدش بعض معتقدات المهتمين بالفلسفة. انها نظرة ترتكز على التمييز بين المطلق اي تلاحق اللا نهائي لنبض الزمان من هذا المنظور فإن الروح متوجهة نحو مستقبل مجهول كما يرفض تصور ذروة التاريخ وخاصة انها كانت في لحظة مضت سواء كانت تمثل لحظة وحي القرآن بالنسبة للمسلمين أو لحظة تجسيد ابن الله بالنسبة للمسيحيين. حقيقة ان المسيحي يحيى بن عدي(282ه/895م-363ه/974م) لتحويل معناها ولكنه لم يكن ليستعمل مفهوما كهذا إلا لحل مشكلات لا هوتية كالتجسيد(مسالة لا مادية وتعالي الجوهر) بمعنى الانفصال عن عالم المادة بالتالي تبقى –على عكس ذلك – دون ان يخالف المعنى الارسطي في هذه المسالة.

 الفلسفة والبحث عن السعادة

من سيحدد الإطار الإصطلاحي لتطور الفلسفة عند المسلمين هو نقد ميتافيزيقا الرّاري، هو الفرابي الفيلسوف الفارسي (حوالي 259/872- 339/950)، يعرّفُ على أنّه من ورثة - رغم التعقيدات الجغرافية الجمة- مدرسة الإسكندرية، التي أخذ عنها فكرة أن الفلسفة علم لتحصيل السعادة العظمى، كتاباته تثر الدهشة بالهدوء الإيجابي الذي فيها، تشهد عن ثقة اثيرية ما. كما يدين المتجادلين الذين يبالغون في الكلام النابي لاسكات الخصم، عن طريق الملل، الخجل أو الخوف، وأولائك المقتنغون بامتلاك الحقيقة، والذين لا يتراجعون أمام الكذب، السفسطة أو المغالطة.

ولكن هذا ما هو إلّا إمتداد عشوائي لمفهوم عام عن تاريخ الفكر الإنساني والذي كان بمثابة الأساس في نظامه. بالنسبة للفرابي، باشرالإنسان بالرغبة في معرفة الأشياء الحسية، وبعدها الطرق البسيطة للمحاججة: الإستدلال الخطابي اوّلا والذي يكون عن طريق الإغراء البياني اللغوي (صورة أو إيقاعا )، ثمّ الجدل الذي يهدف فقط إلى إسكات الخصم، وإثبات عدم كفاءته. وعليه يربى الإنسان إذن على نهجين. اما على المستوى الفكري الخالص الراغب في بلوغ الحقيقة فإنه خصّها بالرياضيات. اما فعل ضرورة تنظيم الحياة البشرية، فوضع الجدل في خدمة العلوم السياسية. هذه الثنائية مكنت من ظهور الفلسفة. وقد بلغت هذه الأخيرة كمالها مع ارسطو ووضعه للبرهان، الذي يبلغ الحق بشكل شمولي ونهائي. ولكن بعد هذه القمة التي بلغتها الفلسفة يأتي الأفول: لأن الفلسفة أصبحت مادة للتدريس مستندة أساسا على مستوى أوّلي، وعلى الخطابة. هذه الأخيرة أدّت إلى ميلاد الدين، الذي أدّى بدوره إلى ميلاد علوم مرتبطة به مثل الفقه والكلام. يجب العوذة إذن إلى هذا الجانب من تراجع الفلسفة لإعادة تشكيل وفهم المنهج البرهاني.

هذا لا يعني أن الفرابي يتجاوز التاريخ (يضعه بين قوسين). كان يؤلف في ظل الحضارة الاسلامية كما كان هو ذاته ذو ميول شيعية -على ما يبدو-، اقترح نموذجا كونيا غنوصيا الذي يضع كل من الفيلسوف والنبي جنبا الى جنب في مقام واحد (فكرة وضعها الكندي قبل ذلك). في كلا الحالتين يوجد إلهام لعقل الإنسان بواسطة متعالية سميت بالعقل الفعّال، يبلغها الفيلسوف عن طريق تأمّل عقلي وجهد طويل، بينما يبلغها النبي بمساعدة، بكرامة خاصة وفضل يناله. يقول الأول عن طريق مجموعة مصطلحات متاحة لفئة قليلة من النخبة، أمّا الثاني فإنّه يستقبل بفضل هبة خاصة وينقل صورا تقود العامة عن طريق الإقناع. والأكمل هو حصول الأمرين معا ويصبح الفيلسوف هو القائد. إذن هو إنساني كامل، كما هو الأمر عند الرازي، ولكنّه إنساني هجين: الكمال الإنساني يتجسد في فئة الفلاسفة، أمّا العامة فتبقى في مستوى أدنى، لا تبلغ إلى العقل إلا بالإشتراك.

في بحث عام عن المنطق، ياخذ ويمدد عموم منطق أرسطو –الذي اعتاد العلماء منذ العصر القديم إختصار كتاب الشعر والخطابة منه)، رتّب الفرابي وقيّم كل أشكال التفكير في ألفاظ مألوفة للعامة. يكتب بلغة عربية لأنّها كانت لغة العلم في عصره، ولكنّه لا يعطيها فضلا عن باقي اللغات. عبارته ذات بناء رياضي بعيد تماما عن الأبتكار والبديع الذي يختص به الأدب العربي. رغبة منه في إظهار العناصر المميزة للحضارة العربية، كان يسعى الفرابي إلى بلوغ العالمية.

هذا ما تطمح إلى تحقيقه المدينة الفاضلة التي طرح الفرابي أفكارها التنظيمية. ليبين أن الإنسان عالميا معترف له بأنه كائن أخلاقي، ومثلما فعل أفلاطو نفإن الفرابي يضع المعقولات الأخلاقية كلية عالمية وضرورية، التي لا ترتبط بالتجربة: إنّها مفاهيم مثل العدالة، أو اقتراحات أخلاقية أساسية. نقلت عبر العقل الفعال وتصبح موضوع نقاشات عند الإنسان. وهذا يتم عن طريقين: فهي تجسدها في أشكال تعبيرية التي تعرف بانها مختلفة، ومن جهة أخرى تأخذها كقواعد لتحقيق المعقولات. طريقة تقترب وتشابه في النباهة من أعمال في الرياضيات.
في حين أن الإنسان لا يمكنه بلوغ السعادة وحيدا. خاصّته أنه حيوان سياسي. هناك مسار جمعي بين الأجيال المتعاقبة للأرواح، بنفس الكيفية التي يتم بها تراكم الأفعال من نفس الفرد تنمي صنعته أو على العكس تفنيها. ولكن معقولية الحقيقة السياسية تابعة لتحديد عام لما يجب أن يكون خاص بالذوات. لا تنفصل السياسة عن الميتافيزيقا وهناك تكامل بين العلم التطبيقي والعلم النظري. يتدخّل العلم إذن لكن في تعريف شامل وعام لجميع الأراء والأفعال المتعلقة بمؤسس (دون أي تحديد تاريخي)، من أجل تكوين جماعة ذات أهمية تسعى إلى تحقيق أهداف ما.

والمفترض أن تكون المجتمعات الفاضلة هي الإنسانية قاطبة، الأمة والمدينة. المجتمعات الأصغر منها هي مجتمعات غير كاملة ولا يمكنها أن تحصل السيادة كاملة. يتبر كل من الفرابي وابن عدِيّ وكذلك الرازي يعتبرون كلهم منخرطون في الفكرة السينيكية الرواقية والتي حسبها تنخرط الإنسانية كلها تشكل الجماعة. يدرس الفرابي أسباب التي تؤدي إلى الإختلاف بين الشعوب ولكنه لا يعتقد انّها تعيق تشكيل الجماعة الإنسانية كاملة. لم الفرابي ولا ابن عدي يتصورون وجود الجماعة على شكل الأمة الإسلامية تجميع لكل الناس حول نفس العقيدة. يقول ابن عدي أن مصدر هذه الجماعة يكمن في النفس العاقلة، التي يمتلكها كل انسان، والذي يميز مخلوق عن الخالق.

في بعض النصوص (والتي يتعذّر علينا تحديد كتابتها من مجموع أعماله)، يحدد الفرابي معرفة الميتافيزيقا في دراسة الموجود بما هو موجود ومبادئ علوم الجزئيات، كما يعتقد أنها يمكن أن تقود بحثه إلى غاية الموجودات اللا مادية. يترتب عن تعذّر بلوغ العقل الفعال عدم وجود حياة بعد الموت وأنّه لاتوجد سعادة إلاّ سعادة السياسة، وهو إصطلاح قريب من فكرة "الخلود الذاتي" لأوجست كومت Auguste Comte.

فلسفة الفرابي اختيارية وبالنظر الى مقاييس معينة فهي أحد العوامل الجمع وبهذين الطريقين. أولا هي أرضية تفاهم تتجاوز العقائد: كان هو ذاته تلميذ للمسيحيين، المسلم الفارابي يجمع حوله تلاميذ مسلمين ومسيحيين ويهود، وعندما غادر بغداد قريب نهاية حياته، نقل إدارة مدرسته إلى المسيحي يحيى بن عدي. والواقع أن الفلاسفة المسيحيين لم يواجهوا نفس الصعوبات التي واجهها المسلمون: ليس فقط لأنّهم تمكنوا من امتلاك الثقافة الاغريقية من قبل الاسلام. وقد نشر الفرابي هذا الإمتلاك إلى نواحي أوسع من الموروث الهليني، ولكن منذ يحيى النحوي في القرن الخامس تم التفريق بين ما هو في ذاته مثمر وبين المرفوض. والمسيحيون من حافظوا على تقاليد الفلسفية للفرابي في بغداد لما يقارب قرن من الزمان.

ثانيا فكرة أن الفضيلة تعلّم (أنظر مدخل الأخلاق)، وبشكل عام، التركيز على العقل التطبيقي يسهل استقبال هذا الشكل من التفكير عند البرجوازية المثقفة. وبالفعل كان لهذه الطبقة موقف غامض. فمن جهة تقبل كمبدأ عام، الاطروحة الأرسطية أن السعادة لا يمكن بلوغها عن طريق النظرية theoria، يعني التأمل لأنّها فكرة جاءت من العصر القديم، والتي نتج عنها الاستخفاف بالنشاط اليدوي (اخوان الصفاء باستثناء الرازي وحدهم كان لهم تقدير الأعمال اليدوية (صناعة عملية)، كما لا يمكن القول بثقة أنه في حالتهم أنهم يعون تماما النتائج الفكرية التي أدى لها ذلك –كما رأينا عند الرازي-، أم أنه فقط أجراء من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من الأتباع). ولكن من الجهة الأخرى هذه البرجوازية تحافظ على تسليتها (scholè) منها اشتقت كلمة مدرسة التي سمحت لهم باستعمال الأفكار، سرعان ما يخافون من
محدودية العقل الخالص.

 فلسفة، مؤانسة إجتماعية ودين

هناك مستوايات مختلفة في عملية اختيار الثقافة الفلسفية. الابسط هو استعمال كتب الحكماء التي تجمع الحكم والأقوال المأثورة والحكم الأخلاقية تحت سلطات مختلفة: يهيمن عليها الحكماء اليونان بمن فيهم الشخصيات الأسطورية الوثنية مثل هرمس Hermès أو الوثنية العربية مثل لقمان، بالاضافة إلى شخصيات توراتية مثل سليمان، أو الجن والذي يلعب دورا في المحيط حسب القرآن أو النبي محمد.

إنه نوع أدبي يكون قد ورث عن البيزنطيين، والذي لاقى انتشارا واسعا إلى درجة أنه مر إلى الغرب عن طريق ترجمة الى عدة لغات. لكن هناك مشكلة مهمة في هذا النوع أنه يعطي الإنطباع أنه يمكن الوصول عن طريق الملخصات إلى أفكار مهمة وعميقة في حين انه حسب تلك الدواوين الحكمية ذات مستوايات مختلفة، إذ يمكن أن يحتوي على أمور ليست ذات أهمية، من مقاطع دقيقة لمفكرين كبار وصولا إلى أفكار بسيطة وتافهة، تعابير كراهية شعبية، كراهية للمرأة.

هناك مستوايات مختلفة في عملية اختيار الثقافة الفلسفية. الابسط هو استعمال كتب الحكماء التي تجمع الحكم والأقوال المأثورة والحكم الأخلاقية تحت سلطات مختلفة: يهيمن عليها الحكماء اليونان بمن فيهم الشخصيات الأسطورية الوثنية مثل هرمس Hermès أو الوثنية العربية مثل لقمان، بالاضافة إلى شخصيات توراتية مثل سليمان، أو الجن والذي يلعب دورا في المحيط حسب القرآن أو النبي محمد. إنه نوع أدبي يكون قد ورث عن البيزنطيين، والذي لاقى انتشارا واسعا إلى درجة أنه مر إلى الغرب عن طريق ترجمة الى عدة لغات. لكن هناك مشكلة مهمة في هذا النوع أنه يعطي الإنطباع أنه يمكن الوصول عن طريق الملخصات إلى أفكار مهمة وعميقة في حين انه حسب تلك الدواوين الحكمية ذات مستوايات مختلفة، إذ يمكن أن يحتوي على أمور ليست ذات أهمية، من مقاطع دقيقة لمفكرين كبار وصولا إلى أفكار بسيطة وتافهة، تعابير شعبية كراهية الآخر، كراهية المرأة. تحت سمات الأكثر تعسفا والأكثر تذبذبا. لتصبح بعض المقولات المنفصلة عن أي نطاق من ضمن حكمة الأمم .

بينما يوجد شكل أكثر تماسكا متمثل في المجالس، أو إجتماع المثقفين. كانت المجالس بداية بمبادرة من الخلفاء وكانت المجالس مخصصة بالاضافة إلى الإستماع إلى المدّعين، الخطباء، الأدباء، والعلماء الذي يرغبون بالإنظمام إلى محيط الأمير. وهكذا أصبح هؤلاء من الضيوف، مما يفترض أن تتوفر فيهم مجموعة من الكفاءات، والمعارف إذ كان الأمراء غالبا يميلون إلى تنظيم مبارزات فكرية من حين لآخر. لكن سرعان ما تشكلت حلقات موازية حول وجهاء الإمبراطورية الراغبين في صيانة سمعتهم. سمع هذا النظام بأن يحضى كل عالم بحماية أمير أو وجاهة ليعيش بكرامة. ولكن هناك ايضا تجمعات مستقلة عن السلطة عن بتقدير من العامة vox populi لبعض العلماء. القاسم المشترك بين هذه المجالسش والحلقات هي انتماؤها الى نخبة من المفكرين دون تمييز إجتماعي، عرقي أو ديني. ولدينا مثال رائع عن ذلك في ما بين القرنين التاسع والعاشر في كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي الذي يوصف عادة بـــ "أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء"، والذي ينقل لنا لحظات تلك الإجتماعات. لا شك ان الحال لم يكن كذلك في كل التظاهرات من نفس النوع. وليس أروع منها إلا أن نجد تطرقا لمواضيع فلسفية محضة مثل العقل، الممكن، الحس، إلخ. وساعد إنتماء المشاركين في تلك الحلقات إلى أديان عديدة إلى تراجع هيمنة الدين، وكانت التحاليل متعلقة الأمر بالوجود الإنسان كإنسان، وليس كمسلم. بينما كان يعتمد فلاسفة عرب ممن عاصروا التوحيدي على ادّلة فلسفية مستوحاة من الإغريق الذين اعتبرت مؤلفاتهم ملكا عاما تشترك فيه الإنسانية قاطبة. تشعبت إذن واختلفت الطرق التي انتشرت من خلالها الأفكار المستقاة من مذاهب الفلاسفة القدماء، في حين لم يكن التعليق والشرح على تلك المؤلفات الذي قام به المختصون إلّا التمظهر الأكثر روعة وخصوبة. وكان التحاور الشفاهي في تلك اللقاءات لا يمكن الوقوف فيه على ما نقل من ما أثبت في الكتب وما نسب إلى الذاكرة مثل "وقد قيل".
عملية إدخال الفكر في مجال السياسة هي بلا أدنى شك العملية الأكثر أصالة في العالم الإسلامي التي قام بها الفرابي . وابتداء منه أصبح الجانب الإجتماعي جزءا من الفلسفة. بينما ختم مسكويه (320/932- 420/1030) الجزء الأوّل من رسالته في الأخلاق بالقول أن الإنسان: "يحتاج إلى مدينة أين يحيا الناس لينعم بسعادته البشرية". ويغوص تفصيلا في البعدين الجغرافي والتاريخي، وسبق للحقل الإنساني أن تم الولوج إليه من طرف من سبقوه من الفلاسفة أو المعاصرين له. ومن الناحية الجغرافية وكونه من فارس فقد أضاف إلى الحكمة الهينسية السامية كتاب فارسيا قديما الذي ضم أمثالا هندية عنونه بــ "الحكمة الخالدة" مشيرا إلى كونية المفاهيم الأخلاقية. ومن الناحية التاريخية، فالتموضع في أثر أول رسالة في الأخلاق الذي وضعه يحيى بن عدي والذي اخذ عنه عنوانه ليكون عنوانا لمؤلّفه، يزيد من كمية المراجع اليونانية، لينتج كتابا تاريخيا مهما بعنوان" تجارب الأمم وتعاقب الهمم" (عنوان يتناسب مع الجزء الاخير من الكتاب الذي خصصه الكاتب لعصره). نشعر من خلال كتابات مسكويه أنّنا نشهد تحقيق أكبر تلخيص للفكر الإنساني. إذ نجد عنده في آن واحد النظام الكوني الغنوصي الذي ورثه عن الفرابي (ممثلا في رسالته القصيرة كتاب الفوز الأصغر)، أدبيات الحكمة (والذي يندرج فيها كتابه الحكمة الخالدة) والأدب (في حواره مع التوحيدي الهوامل والشوامل). رغم ان هذ التلخيص للنزعة الإنسانية تم نقده من داخل الفسفة ذاتها، من طرف أهم الفلاسفة ابن سينا (370/980-429/1037). واعيا بتفوقه الفكري انتقد ابن سينا التساهل المنطقي الذي تميز به مسكويه و"هؤلاء المسيحيين المخاريق" الذين ينشرون تعاليم الفرابي دون أن يبلغوا مقامه. تجسّدت الثقة في التراث اليوناني عنده في تقديس المنطق الارسطي مقتنعا بمهارته في تطبيقه على كل الأشياء سمح له بالتعبير عن كمال حقيقة المشائين. وكمن يعتقد انها أفكار ارسطو ذاتها خالطتها الأفلاطونية المحدثة بشكل كبير، المحاولة الجيدة التي التي قام بها لتحليل النفس والعقل كانت غالبا ذات إتجاه ديني لوصف رحلة النفس، غارقة في الوجود وباحثة عن خلاصها. دين تثقيفي ودين خالص، لا ينحصر في البحث عن الخلق والنبوة (كما قام بذلك الفرابي ومسكويه) ولكن يستحضره في شرح متقدّم للوحي القرآني في جزئياته، أدى هذا إلى ضرب الانفتاح نحو الأنسنة عند أولائك الذين أراد ابن سينا إقصاءهم. ليكون بعده في الشرق نوعمن الوفاء لما اعتبر ميراثا للعصور القديمة، مضافا إليه التراث الفارسي القديم، ولكنه جمع توفيقي أكثر منه عمل ينخرط ضمن تقاليد الأنسنة. وأمّا من منشور الكندي فلم يتبق إلا التوفيق بين الفلسفة والنبوة، مما فتح الباب أمام الغزالي وإنتقاداته للفلسفة باسم الأرتودوكسية الدينية.

 تجديد الفلسفة في الأندلس

أمّا في الغرب الإسلامي، في اسبانيا القرن العاشر/ العادي عشر، تعود الفلسشفة لربط علاقتها مع ما سيشكل مخزونا للفكر الأنسني، خاصة الثقة في العقل البشري. ويجب التنبيه إلى اللبس الذي يمكن أن ينتج عن صفة "غربية" وليس كما تستعمل في نطاق التاريخ الاوروبي. مع هذا الإنتقال الجغرافي، وجدت فكرة ابن سينا القائلة أن الفلسفة خادمة الشريعة متبنين لها، بما في ذلك في أوساط المثقفين من امثال السعيد الباداجوزي. لكن يبقى ابن باجة (حوالي 473/1080- 533/1138) أول أكبر الفلاسفة الأندلوسيين (Avempace عند اللاتينين)، الذي عاد إلى الفارابي مقللا الإستشهاد بالقرآن في كتاباته، كما صارع من جهة أخرى رجال الدين. كما طعن في مؤلفات ابن السعيد باسم المنطق، النهوض بالفلسفة الفرابية لمواجهة إنتقادات الغزالي التي كانت أساسا في حق فلسفة ابن سينا، ويعد ابن باجة شخصية متناقضة. فهو شاعر فذّ وموسيقي بعترف له بالفضل، خبير في العلم الطبيعي والفيزياء، وفيلسوف، تبدو مواصفات تستجيب تماما لتصورنا للإنساني (ذو النزعة الإنسانية). في حين انّه يقترح نهج الزهد موجها للمتوحِّد، يعني أن يكون فردا تائها في مدينة جاهلة. وحسبه فإنّها الطريقة الوحيدة التي تمكن الفرد من بلوغ السعادة العليا من خلال عزلة روحية ضرورية وسيلتها المعرفة أكثر فأكثر، متخلصا من المادة. في حين أنّ اللذة التصوف الذي يقول به الغزالي، لا توصل إلّا إلى خيالات عن الحقيقة. أمّا موقف ابن رشد (520/1126- 595/1198) (Averroès عند اللاتينين) بهذا الشأن فهو مشابه في معظمه إن لم يكن إلّا حياته التي كررها في كتاباته، فهو يفضل وجهة النظر العامة. كونه رجل دين حضوره مشهود له عند مختلف الطبقات الإجتماعية، فهو يحدد اللغة خطاب العوام ويضع المفكر في خضم تيار الإنسانية كافة. لكن لا يجب أن ننسب اليه أكثر من ذلك. مثلما حاول فيلم سنمائي أن يظهره الرجل المتسامح، المتفتح على الأقليات كاليهود، قاضي متسامح، المناصر لقضية المرأة... والواقع أنه كان رجل دين يقول باستحالة الحوار مع من "يجهلون المبادئ" وعليه يجب إقصاؤهم، ما وصلنا من عمله كقاضي يبين ميله للرأي الأكثر تشددا، والذي لم يكن له أي تواصل مع اليهود إلا أثناء نكبته السياسية ونفيه في إحدى القرى اليهودية. كما أنّه لم يؤيِّد المساواة بين الرجال والنساء إلا تماشيا مع أفلاطون عندما شرح الجزء المتعلق بالسياسة من كتاب الجمهورية. إذا كانت النزعة الإنسانية موجودة عند ابن باجة وابن رشد فهي متمثلة في استقبال العلم الذي انتقل من العصور الوثنية القديمة وفي إرادة الواقع –كل الواقع- عن طريق قوة العقل وحدها. هذه الارادة في ذاته أمر كبير ولكن هذا أقصى الأمر لم يتجاوزوه إلى غيره. إذا كان من غير المقبول أن نلقي بنظرتنا الآنية على مفكرين من الماضي، فإنّه توجد علاقة تاريخية مع عقليتنا الحديثة. يوجد هذا الرابط في الاعجاب الشديد بالقصة الفلسفية حي بن يقضان لثالث أكبر فيلسوف أندلسي ابن طفيل (ت. 581/1185-6). وقد اقتبس عنوان القصة من حكاية رمزية لابن سينا، لكن اختلفا الفيسوفين المشرقي والغربي فيما يتعلق بالعقل الفعال فحين يربط المشرقي بواسطة تمثلات خيالية حتصلة عن تأمل متعالي، يضع خلالها العقل الفعال المعقولات في النفس الإنسانية، فإن الأندلسي يعود إلى قصة شعبية ليصف حياة إنسان وحيد يعيش على جزيرة، حر تماما معتمدا على تفكيره في العالم، وفي نفسه وتكوينه ككائن حي، وبلوغ معرفة كل مفاهيم الحياة وصولا الى الخالق وصفاته. تعتمد هذه العملية على المبادئ البسيطة الضرورية للعقل الفطري، واما الإحتكاك البعدي مع الدين الواقعي ما هو إلا تأكيد لمعطيات التي حصل عليه بعقله. تعتبر القصة من ضمن المؤلفات الأدبية الاندلسية المهمة تتطلب ثوبا من نسيج تتداخل فيه العناصر العلمية، الفلكية، النفسية، الميتافيزيقية ، والصوفية التي توفرت كلها في تلك الحضارة. عل عكس نص ابن سينا الصوفي التحول الى قصة وصفية لم يكن له أي صدى في الإسلام الكلاسيكي. وعندما خرجت القصة من بعد خمسة قرون من النسيان اوّلا في انجلترا في طبعة من طرف المستشرق بوكوك E. Pocock سنة 1671 ، ثمّ ترجمتها من طرف أستاذ اللغة العربية أوكلاي S. Ockley في جامعة كامبرج سنة 1708، نستطيع القول أنّه حدث تطوّر في فهم محتواها وما جاءت به. العنوان اللاتيني الذي وضعه بوكوك Pocock "الفيلسوف العصامي Le philosophe autodidacte [...] التي يبين فيها كيف يمكن للعقل البشري أن يستيقض ابتداء من الأشياء الدنيا إلى غاية معرفة المتعالي"، إنها طريقة منهجية:" ما هي الخطوات التي يجب المرور بها؟"بينما يذهب المترجم الأنجليزي أبعد من هذا في عنوان ترجمته:"تطور العقل البشري [...] الذي يتم فيه توضيح أي طريق يمكن، وبواسطة أي نور الطبيعة المحض ان نصل إلى معرفة الأشياء الطبيعية والمافوق طبيعية (الميتافيزيقية)، وخاصة معرفة الله". نلاحظ هنا تأثير لوك Locke صاحب "رسالة في التفهم الإنساني Essai sur l’entendement humain" طبع سنة 1960، الذي يهدف إلى الحد من العقل. في ظل هذا الكتاب كانت قراءة أوكلاي Ockley تتطلب منا التساؤل التالي: "ماذا كنت سأفعل لو كنت مكانه؟" قراءة بسيكولوكية سنجدها فيما بعد عند ديفوي D. Defoe صاحب روبنسن كروزوي Robinson Crusoé قصة طبعت 11 سنة بعد ذلك، لتكون أوّل قصة إنجليزية حديثة.

دومينيك اورفوي

 مختارات بيبليوغرافية

Arkoun (M.), Contribution à l'étude de l'humanisme  arabe au IVe/Xe siècle : Miskawayh philosophe et historien, Paris, 1970 et rééd.
Bergé (M.), Pour un humanisme vécu : Abû Hayyân al-Tawhîdi, Damas, 1979.
Jolivet (J.), « L’idée de la sagesse et sa fonction dans la philosophie des 4e et 5e siècles », in Arabic sciences and philosophy 1,1991, p. 31-65.
Kraemer (J.), Humanism in the Renaissance of Islam: the Cultural Revival during the Bûyid Age, Leyde, 1986.
Leaman (O.), « Islamic humanism in the fourth/tenth century », in History of Islamic Philosophy, Seyyed H. Nasr et O. Leaman éd., Londres, 1996, t. I, p. 155-161.
Makdisi (G.), The rise of Humanism in classical Islam and the Christian West, Londres, 1990.
Urvoy (D.), « The Rationality of Everyday Life: an Andalusian Tradition? (A propos of Hayy’s First Experiences) », in The World of Ibn Tufayl. Interdisciplinary Perspectives on Hayy ibn Yaqzân, L. I. Conrad éd., Leyde, 1996, p. 38-51.
Averroès. Les ambitions d'un intellectuel musulman, Paris, 1998 et rééd.
Vallat (Ph.), Farabi et l'École d'Alexandrie. Des prémisses de la connaissance à la philosophie politique, Paris, 2004.