الصفحة الأساسية > العربية > من أجل نزعة إنسانية متوسطية >>>

من أجل نزعة إنسانية متوسطية >>>


من أجل نزعة إنسانية متوسطية

ألا يعد إفتراض، وجود "نزعة انسانية متوسطية" -كما يشير إليه عنوان هذه الموسوعة-، بمثابة السير نحو مغامرة حقيقية وغير مضمونة النتائج؟ ولكنه مصير كل الطرق، لا تؤدي إلى أي مكان إذا كنا لا نعلم إلى أين نتجه. في ظل هذه الظروف، لكشف إمكانيات وأهمية مفهوم "النزعة الانسانية المتوسطية"، سنتبع منهج يتطلب منا تقديم ما يستدعيه هذا المصطلح من تفسير، ويبدأ ذلك بتوضيح تكوين لفظ أنسنة "Humanisme" من منظور التاريخ الثقافي.

رغم أن الإنسان كمقولة فلسفية انتروبولوجية قديمة الوجود، إلا أن فكرة الأنسنة حديثة العهد. في حين أن هذه الأخيرة ارتبطت في الوعي الأوروبي المعاصر، على نحو محدود(ضيق) بالنهضة الايطالية في القرن الخامس عشر- سنأتي على ذكره- الذي يكاد ينسى، وأن ظهور هذا المصطلح لا يمتد لأبعد من بداية القرن التاسع عشر. وعليه، ننفي أن القرن التاسع عشر الأوروبي ذاته الذي إحتفى بالانسان، بنصب معلم إيديولوجي خاص لتمجيده، هدَّدَ وحدته من خلال ترتيب هرمي للأعراق قمته الجنس الأبيض، الذي يتربع على عرش العالم ليكفل استمرار نظامه.

 الأنسنة: مفهوم من القرن التاسع عشر

هذا صحيح، لأن لفظ" أنسنة" "Humanisme" ورد لأول مرة سنة 1808م، في إحدى الكتابات البيداغوجية للمصلح فريديريك نيثهامر Friedrich I. Niethammerالمعنونة بــ: Der Streit des Philanthropinismus und des Humanismus in der Theorie des Erziehungs-Unterrichts unserer Zeit " "الصراع بين محبة الإنسانية (الفيلانتروبيا) والنزعة الانسانية في النظرية التربوية التعليمية المعاصرة". حيَّ هيجل- صديق المؤلف- هذا المخطط الدِّرَاسِي، بوصفه دفاع عن"الفصل بين التعليم النظري والتعليم التطبيقي"، وأعجب الفيلسوف كثيرا لـ:"إيمانه الكبير بتفوق الدراسات الكلاسيكية"(Hegel, Textes pédagogiques, trad. B. Bourgeois, Lettré à F.I. Niethammer du 14 décembre 1808, Paris, 1978, p. 48). من هنا فصاعدا، سيعني هذا المصطلح الجديد التعليم القائم على دراسة الكلاسيكيات اليونانية والرومانية.

سنوات بعد حصوله على هذا المدلول الفيلولوجي، في الوسط الهيجلي-دائما- اكتسي لفظ أنسنة "humanisme" محتوى فلسفيا.في أوساط اليسار الهيجيلي استعمل كمفهوم في الفلسفة الأنتروبولوجية. نجد له أثرا عند ماركس Marx الشاب في مخطوطات 1844 وفي العائلة المقدسة(1845) الذي ألفه بالتعاون مع فريدريك انجلز Friedrich Engels. حسب ماركس Marx الشاب، فإن الأنسنة كرمز ورجاء لتحرر الإنسان، قد وجدت إكتمال عبارتها الفلسفية عند فريديريك فيورباخ Friedrich Feuerbach ، والسياسية في الاشتراكية الفرنسية. مطلعا على النقاشات التي دارت في المانيا، بيار جوزيف برودن Pierre-Joseph Proudhon لم ينخرط في هذا التوصيف الفلسفي. لقد شجب هذا المفكر البارز للحركة الثورية الفرنسية، خاصة الجزئية التي تتخذ من الأنسنة الجديدة دينا للانسان يكون فيها عابدا لنفسه. لكنه إذ يرفض قبول كل "تأليه لنوعنا البشري" أن يلوح في ظل المقولة الفلسفية، فلا يبدو، أن نقض صحته هو ما يجعل منه "مذهبا يتخد من الإنسان غاية له". (P.J. Proudhon, Système des contradictions économiques ou Philosophie de la misère [1846], in Œuvres choisies, Paris, Gallimard, 1967, pp. 243-244).

رغم تداوله منذ سنوات1840 في مختلف الحلقات الفرنسية المهتمة، لم يدخل اللفظ "أنسنة Humanisme" القاموس الفرنسي إلا ثلاثة عقود بعد هذا التاريخ. في ملحقه لسنة 1877، [http://francois.gannaz.free.fr/Littre/xmlittre.php?requete=humanisme] القاموس الليتريLittre ، يجعل منه في آن واحد "دراسة في الآداب الانسانية" و"النظرية الفلسفية التي تُلْحِق التطور التاريخي للانسانية بالإنسانية نفسها"، بهذا اشتهر العبارة في الفرنسية كنسخ حرفي عن الألمانية "Humanismus" حاملا معه المعنيين الفيلولوجي والفلسفي.

في فرنسا-دائما-، في الأوساط الأكاديمية أول ظهور للمصطلح الجديد يحتمل أن يكون بقلم ارنست رينان Ernest Renan على منوال برودن Proudhon -ولكن لدواعٍ أخرى-، شنَّ أستاذ الدراسات السامية هجوما ضاريا ضد فيروباخ Feuerbach واليسار الهيجلي، عندما دحض التصور الديني الذي يجعل من الدين "وهما" ومن" نقد السماء، نقدا أرضيا" (« Feuerbach et la nouvelle école hégélienne (1850) ». لكن سنتين قبل ذلك أُدْخِلَ لفظ "أنسنة" Humanisme في معجمه، ليس بغرض انتقاد صحة أسسه، بل لدعمها من خلال تعريف ما أسماه" الأنسنة المحضة" التي ستكون"عبادة لكل ما هو نابع من الإنسان" عرَّفه على أنه تقديس للحياة ككل ورفعها إلى مستوى قيمة أخلاقية (L’Avenir de la science, Pensées de 1848 [1890], rééd. 1995, 160)

بتشييد النزعة الانسانية كـ"ديانة للمستقبل"، يكون رينان Renan غير بعيد من أن يجعل من أخلاقها بديلا للأخلاق الدينية خاصة المسيحية، في حين أن هذا هو ما حاربه برودن Proudhon عند فيورباخ Feuerbach. لكن رينان Renan بقي متعلقا بمعتقد أن "هناك شيئا إلاهيا في الإنسانية" (.Feuerbach"… , op. cit")، بقي متعثرا بالأحكام السائدة في عصره، لأنه في الوقت الذي يأمل فيه ببزوغ فجر "الأنسنة المحضة"، يقوض من جهة أخرى كل إمكانياتها، بتوظيفه الأنموذج المعرفي العرقي، الذي وجد فيه الخطاب الاستعماري مبرار لزعمه العلمي: "الجنس السامي-يقول-، البائد، يُعَرَّف تقريبا بصفات سلبية فقط: لا أسطورة، لا ملحمة، لا فلسفة، لا خيال أدبي، لا فنون تشكيلية، لا حياة مدنية"، فهو عرق يتميز بـــــ"انعدام التركيب" عرق "غير كامل لبساطته ذاتها"، ناقص، جاحد" شبيه بالذوات القليلة الخصوبة، فبعد طفولة مرفهة، لا تصل إِلاَّ لفُحولة رديئة"(« Peuples et langues sémitiques in Judaïsme et christianisme », op. cit., p. 47)

إذا كانت "الأنسنة المحضة" في نظر أستاذ الفيلولوجيا المقارنة،" هي "دين المستقبل"، هذا المستقبل إذن من نصيب أوروبا "ولأوروبا وحدها" (op. cit., p. 69)، ففيها يوجد أكمل البشر الرجل الأبيض عليه أن يتحمل مهمته المقدسة في نشر أنوار الحضارة في الأرض لينعم بفوائدها القدر الأكبر من الإنسانية ممن حُرِمُوا منها. هذا قدر أوروبا مثلما أعلنه رينانRenan على نمط "النبوة ذاتية التحقق" ستفتح أوروبا العالم وتنشر فيه ديانتها، المتمثلة في الحقوق، الحرية، احترام الإنسان، هذا الاعتقاد بأن هناك شيء إلاهي في الانسانية". ثم ملتفتا إلى الساميين، أي البرابرة الأقرب، يحذرهم العالم الفرنسي:" المستقبل في تقدم"، لكن يواصل نبوءته: لا يمكنم بلوغه إلا بالابتعاد أكثر فأكثر عن الروح السامية المختلطة كما ينبغي بالتعبير البدائي...

باحتلالها لفضاءات أكاديمية جديدة، وسعت الهيجلية، نطاق تأثير مفهومها للتاريخ كتحقق للفكرة في الكتابة التاريخية. عندما أعلن يعقوب بوركخارد أن: الحضارة في كل فترة من الفترات التاريخية كمفهوم متسق متكامل تجلت في الحياة السياسية، الدين، الفن، العلم، في الوقت ذاته الذي طبعت فيه الحياة الاجتماعية بطابعها الخاص (The Civilization of Renaissance in Italy, II, 1877, p. 185 [l’édition allemande originale date de 1860])، إنه يشتق "روح العصر Zeitgeist))" (op. cit., I, p. 68) الخاصة به من فلسفة التاريخ كما نَظَّرَها هيجل في فينومينولوجيا الروح (1807). بعد معنييهما الفيلولوجي والفلسفي فإن لفظي" نهضة Renaissance" و"أنسنة Humanisme" قد اكتسبا مدلولا تاريخيا، مطبق في حقبة زمنية معينة: في حين تعود إحداهما الى العهد الجديد الذي ستنشأ منه" الروح الأوروبية الحديثة"(op. cit, II, p. 48) القرن الخامس عشر الايطالي، تحدد الأخرى تيارها الفكري والأدبي السائد الذي سيجعل من"الإنسان فردا روحانيا ممتنا لذاته كما هي"(op. cit., II, p. 71).. بالنسبة لبوركخارد، ميلاد الفرد حَدَثٌ يظهر في آن واحد كقطيعة جذرية وعودة أساسية: قطيعة مع العصور الوسطى، وعودة إلى العصر القديم اليوناني- الروماني. مع مطلع القرن العشرين واصلت المقاربة الهيجلية لتاريخ عصر النهضة تأثيرها على معظم المؤرخين، ففي ايطاليا مثلا، تجسدت في أعلى مستوا لها عن طريق جيوفاني جنتيل Giovanni Gentile، بالنسبة له القرون الوسطى حطت من شأن الإنسان والحياة في هذا العالم، بينما استردت النزعة الانسانية الايطالية للانسان كرامته، ومنحت الروح الانسانية وقيمة الوجود الارضي إمكانية تطوير كل مواهبهما. قليلون هم المؤرخون من أمثال فرانشيسكو نوفاتي Francesco Novati، هيلين فيروسفسكي Helene Wieruszowski أو إرنست كانتوروفيش Ernst Kantorowicz، الذين ربطوا بين إنسانيي القرن الخامس عشر الايطالي Quattrocento وخطباء القرون الوسطى. إلا أن هؤلاء لم يذهبوا أبعد من الاعتراف ببعض السيمات الشخصية التي يشترك فيها عادة الانسانيون مع الخطباء القرن وسطيون، يعود الفضل إلى بول أوسكار كريستلر Paul Oskar Kristeller في احداث اتصال وظيفي وفكري في نفس الوقت بين العالمين المعرفيين، لا يمكن معه أن يكون التشابه الذي حدده من سبقوه مجرد ظواهر عرضية. بانتهاج هذا المنحى، يكون كريستلرKristeller قد عارض أساتذته، بداية بـــ وارنر يايجرWerner Jaeger.

  ثقافة الأنسنة: هل هي امتياز أوروبي؟

يرى وارنر يايجرWerner Jaeger أن أوروبا لم تعرف أنسنة واحدة فحسب بل اثنتين تندرج إحداهما في إستمرارية الأخرى. في حين أن النزعة الانسانية الجديدة هي من صنع كبار الشعراء الايطاليين بداية عصر النهضة، وشعراء وكتاب لاتينيون حداثيون(néo-latins) نافسوا القدماء في أشكالهم الخاصة ولغتهم، تحققت الأنسنة القديمة في "la paideia"، أي التربية اليونانية، الاستمرارية بين الاثنتين كانت بفضل نهضة متعاقبة. الرومان بداية، عرفوا كيف ينفذون إلى هذه الروح بتحويلهم "paideia" اليونانية إلى"Humanitas" اللاتينية وجعلوا منها المظهر المثالي للانسان." أكد يايجر Jaegerعلى دلالة اللفظ اللاتيني، الذي يفهم على أنه رقي روحاني للانسان من خلال الفن، والآداب، والذي منه مفهومنا للأنسنة"(« Classical Philology and Humanism », in Transactions and Proceedings of the American Philological Association, Vol. 67, 1936, p. 373]) ، هذه الأخيرة بعثت في القرون الوسطى عن طريق النهضة الكارولينجية carolingienne ، قبل أن تزدهر في"النهضة الكبرى"، لتبلغ تمامها في الهيلينية الجديدة مطلع القرن التاسع عشر أي في الثقافة الألمانية، لذلك يشرح يايجر Jaeger:" الأشكال والنماذج التي ابتكرها العالم القديم، كتعبير عن ثقافته الفريدة، ليست بالنسبة لنا مجرد غايات كبرى يجب بلوغها وإعادة إنتاجها، إنما هي -كذلك- حجر الزاوية، الذي تقوم عليه حضارتنا الغربية".

بتضخيمه من طرف مفكرين ألمان آخرين، هذا التراجع الإبستمولوجي الهائل (المؤرخ الايطالي الشهير ارنولدو موميغليانو Arnaldo Momigliano يتحدث عن أزمة)، أدى إلى سقوط Neuhumanismus في ظلام العرقية والمركزية الأوروبية الضيقة. نجد نفس تهافترينانRenan يحدث في إيطار جديد يمتاز بالإنكماش القومي. لقد أقصى يايجر Jaeger نهائيا وجود أي حضارة أخرى غير الحضارة الغربية، بل إن أبعد ما ذهب إليه هو الإعتراف بامتلاك الشعوب غير الأروبية لثقافة ما، مؤكدا على أن دراستها تندرج –حتما- ضمن الابحاث الأنتروبولوجية وليس إلى التاريخ، لأنه سرعان ما يظيف: بصفتها "قيمة وبحث واعي عن مثال ما" فالمفهوم الحقيقي للثقافة غريب عما نسميه في شكل مشابهة فضفاضة وإجرائية" ثقافة صينية، هندية، بابلية، يهودية أو مصرية" Paideia, p. 15). )، الإنتماء إلى الثقافة الأصيلة هو إمتياز للأمم الأروبية" الهيلينو-مركزية" لأنها استوعبت جيدا الدرس اليوناني. صحيح أن السريان، العرب واليهود قد عرفوا الثقافة اليونانية الكلاسيكية، لكن هلينية هؤلاء-حسب يايجر- بقيت شكلية، نظرية لقد تعلموها ولم يدركوها، لم تمنحهم الكرامة التي تمتاز بها الأمم المتحضرة Humanistische Reden und Vörtrage, p. 113 ، لهذا يخلص يايجر إلى أنه ليس هناك أنسنة إلا الأنسنة الأوروبية.

قد أثرت هذه الاطروحات على جيل كامل من علماء الإستشراق الألمان. هكذا غوستاف فون غرونبوم Gustave E. von Grunebaum، إعتبر أن" البواعث، والمحفزات نتيجة تدفق العلوم الهيلينة على العالم الإسلامي في القرنين التاسع والعاشر، وعلى ايطاليا القرنين الرابع والخامس عشر، هي ظواهر توجب المقارنة"، ثم اعترف لـ " نهضة الإسلام" بأنها بُنِيَتْ على"إحياء الأنسنة، التقاليد اليونانية، الدافع العلمي، الإحساس التاريخي، وثقافة العقل ضد المطلق" (G. E. Von Grunebaum, « The Aesthetic Foundation of Arabic Literature », in Comparative Literature, Vol. IV, No. 4, 1952, p. 339)، قبل أن يتراجع عن قوله. في وقت تصدعت فيه الامبراطوريات الاستعمارية تحت وقع الحركات التحررية للشعوب المستعمرة في الدفاع من أجل حريتها وكرامتها ليساند من يَعْتَبِرُون أن:" من الضروري الإدراك أن الحضارة الاسلامية لا تشترك معنا في أي من تطلعاتنا الأساسية[...]"، ثم يهاجم بشدة الأساس المضاد للأنسنة لهذه الحضارة التي ترفض بصفة مطلقة اعتبار الانسان" بأي شكل من الأشكال أن يكون" مقياسا وحَكَماً للاشياء كلها.(G.E. von Grunebaum, Modern Islam : The Search for Cultural Identity, University of California Press, 1962, p. 40)..

  النزعات الانسانية في عصر النهضة في مواجهة العصر الوسيط: بين الاستمرارية والقطيعة

برفضه السير بحذو يايجر Jaeger وأتباعه، يكون كريستلر قد أخذ اتجاها أحدث ثورة في دراسات وتأويلات النهضة الإنسانية. خلافا لتصور بورخارت شرح كريستلر أنسنة القرن الخامس عشر الايطالي كحركة أدبية تدور أساسا حول دراسة النحو والخطابة. بهذا عارض فكرة أن تكون النزعة الانسانية فلسفة جديدة لعصر النهضة في مقابل الفلسفة السكولائية (المدرسية)، بحجة أنها مرتكزة حول الانسان في حين تتجه الفلسفة المدرسية نحو الله، ابتداء بتوضيحه أن دخول معظم الانسانيين الايطاليين مملكة الفلسفة يبقي غير سليم وسطحي، ثم بالاشارة إلى أن الأنسنة لم يمكنها أن تخلف الفلسفة السكولائية بوصفها فلسفة جديدة، لأن هذه الاخيرة استمرت في الازدهارت في نفس الوقت مع الفلسفة الأريسطية بايطاليا الى غاية اواسط القرن السابع عشر. يعارض كريستلر Kristeller من جديد بروكهاردت معتبرا أن النزعة الانسانية لعصر النهضة تدين بإحياءها للعصور القديمة بشكل كبير إلى العصور الوسطى، لاثبات ذلك، يتوجه الى تحري فيلولوجي دقيق للفظ يبين من خلاله مدى تبعية كلاسيكية عصر النهضة للقرون الوسطى، خاصة التقاليد النحوية الفرنسية للدراسات الكلاسيكية، الموروث البيزنطي للدراسات اليونانية، واكثر من ذلك التقاليد الايطالية القرن وسطية لـars des فنون الحماسة والخطابة العمومية ars arengandi (dictaminis, الفنون الأسلوبية والتأليف)، يستنتج من ذلك أنه بعيدا عن كونهم طبقة جديدة، كان الإنسانيون ورثة وخلفاء محترفين لخطباء القرون الوسطى المدعوين Dictators"(P.O. Kristeller, « Humanism and Scholasticism in the Italian Renaissance », in Byzantion, XVII, 1944-1945, p. 346-374, repris dans : Studies in Renaissance Thought and Letters, 4 vol., Rome, 1956-1996,1, p. 564).

أصرّ كريستلر Kristeller، على التذكير بأن لفظ Humanista قد ابتكر في نهاية القرن الخامس عشر لا ليعني به جزافا انسانيون- بالمعنى الانتروبولوجي البوركهاردي Burckhardt - لكن ليعيِّن به الأساتذة الإنسانويون وفق المعايير الخاصة بالجامعة في القرون الوسطى مثل: canonista, jurist legista, ou artista ، منطلقا من ربط علاقة بين لفظ humanista ومجموع المعارف الخاصة التي شكلتها Studia humanitatis (الآداب)، التي تم تبنيها منذ بداية سنة 1430 من طرف القس نيكولاس الخامس Nicholas V -الذي سيصيح بابا لاحقا- ، كمخطط لتصنيف المكتبة التي جهزها من أجل كوزيمو دي مديشي Cosme de Médicis: نحو، خطابة، شعر، تاريخ، وفلسفة الأخلاق.

كتابات الانسانيين الايطاليين للقرن الخامس عشر التي غربلها فيلولوجيا، كريستلر Kristeller وخلص إلى أن (studia Humanitatis) [ في مفهومها الشيشروني كونها تربية أدبية أو ليبرالية، ظهرت لأول مرة بقلم سالوتاري Salutari سنة 1369]، كانت برنامجا أدبيا مرتكزا على النحو والخطابة باستقلال عن الدراسات الفلسفية، الرياضية، الطبية، العلمية واللاهوتية، وخاصة أن هذا "المتن المعرفي المتخصص والمهيكل باحكام الموروث عن نهاية القرون الوسطى "تعزز كثيرا في ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر عن طريق ترجمة نصوص علمية وفلسقية يونانية وعربية. (P.O. Kristeller, Eight philosophers of the italian renaissance, Standford UP, 1964, trad. A. Denis: Huit philosophes de la Renaissance italienne, Genève, 1975, 143-158). En retraçant les portraits، من خلال بورتريهات شخصيات إنسانية أمثال: بيكو الميراندولي Pic de la Mirandole أو فرانشيسكو باتريزي Francesco Patrizi (Huit philosophes, p. 111-114) ، عمل كريستلر Kristellerعلى إثبات مدى أهمية التقاليد العلمية والفلسفية العربية في أنسنة النهضة الاوروبية (translatio studiorum ). بعيدا عن وضع حد لحركة النقل اللاتينية القرن وسطية للموروث العربي، عصر النهضة اسهب في تطويرها بحملها على التماشي بما يناسب ذوق العصر، بينما تمت ترجمة مؤلفات جديدة، عربية-لاتنية من القرن الوسيط وحُوِرَت وفق معايير الأنسنة المتعلقة بالأناقة الأسلوبية الحديثة.

صحيح أنه منذ بيتررك Pétrarque، حقرت تقاليد إنسانية بأكملها من شأن بربر القرن الوسيط، سواء لاتنيين كانوا أو عربا وهكذا حاولت استبدال ابن رشد "الكلب المسعور"، بشراح ارسطو اليونانيين، خاصة الاسكندر الافروديسي Alexandre d’Aphrodise . لكن قيمة العرب ظلت مهمة إلى حد نجد مثلا في: في منحوتة رائعة للاسكندر الافروديسي -ذاته- من البرونز لأولوكرينو Ulocrino( عمل بين 1485-1530)، التي تعد "من الأعمال الأكثر رقيا في الاوساط الادبية لعصر النهضة الانسانية في البندقية" مرفوقا بمعلمه ارسطو الرأس ملفوحة بعمامة! كنموذج ثقافي وتصويري في الاوساط الفنية الانسانية في البندقية أنذاك، غطاء الرأس الشرقي يدل على الحكمة، يجعل من الشخصية الأدبية التي ترتديه "حكيما حقيقيا" (D.R. Morisson, « ‘Aristotle and Alexander of Aphrodias’ Ulocrino », in R. Sorabji (ed.), Aristotle Transformed : The Ancient Commentators and their Influence, Cornel UP, 1990, 481-484 [Pl. p. 484]).
في بندقية ذلك العصر، أين الإطلاع على كتابات ارسطو ومؤلفين كلاسيكيين آخرين يتم -في جزء كبير منه- عن طريق ترجمات وشروح عربية، التقاليد الكلاسيكية والاسلامية تتداخل ببعضها البعض. لم يعتبر من المهم ولا الضروري التمييز بين الثقافتين مثلما تشهد على ذلك نصوص ارسطو وابن رشد منذ نشرها منفصلة سنوات 1470، الى غاية نشرها مجتمعة بعنوان Omnia Aristotelis et Averroes 1550-52، و 1553-76. لم يساهم في هذه التقاليد النشرية ورثة (السكولائيين) المدرسيين فحسب لأنه" منذ الطبعات الاولى، لارسطوطاليس الرشدي كانت له اتصالات -ليس فقط- مع الجامعة والفلسفة الاكاديمية، ولكن بشكل موسع- مع كل الحركات الثقافية المعاصرة"(F.E. Cranz, « Editions of the Latin Aristotle accompanied by the Commentaries of Averroes », E.P. Mahoney (ed.), Humanism and philosophy, Leiden, 1976, p. 116-128 [référence, p. 118). أول طبعة "إنسانية" لارسطو- ابن رشد كانت بتاريخ 1497، لكن وطأة الماضي كانت كبيرة، فرغم حماس بنيديكتوس فونتاتا Benedictus Fontana الذي اشرف عليها، لم يتمكن من التخلص كليا من ذلك الماضي وواصل نشر الترجمات اللاتينية القرن وسطية.
هذه العلاقة المعقدة والغامضة لعصر النهضة الانساني مع الارث العربي-اللاتيني، استعادها جيرولامو الكريموني في منمنمته الفاخرة التي حملتها الصفحة الافتتاحية لكتاب الميتافيزيقا، في النسخة المطبوعة لمجموعة مؤلفات ارسطو سنة 1483م، التي اخترنا أن تظهر في الصفحة الاولى( صفحة الاستقبال) لموقع هذه الموسوعة على الانترنيت. لقد أعاد الفنان تمثل الموضوع الايكونوغرافي(بالصورة) الكلاسيكي ل( Turba philosopherum) "مجلس الفلاسفة" وهو نفس عنوان كتاب في الخيمياء ترجم من العربية الى اللاتينية أواخر القرن الثاني عشر، وأدخله إلى أوساط الأنسنة الإيطالية مارشيلو الفيشيني Marsile de Ficin عن طريق(la Prisca theologia) التيولوجيا الطبيعية:على شرفة خارجية، حضر في يمينها الفلاسفة اليونانيون الاوائل حسب ما تعارف عليه في القرن الخامس عشر كبيزنطيين بلحيهم وعباءاتهم الطويلة معتمرين قبعات دائرية صغيرة غريبة متدلية. مباشرة على يمين العمود الذي يقسم المشهد الى نصفين متناسبين، يظهر من يبدو أنه ارسطو واقفا رافعا يده اليمنى باتجاه السماء أو عنوان الكتاب المشار إليه في لفيفة أعلاه، ملتفتا إلى شخص موجود خلفه والذي لا يمكن إلا أن يكون معلمه أفلاطون، بينما يقف من يعتقد أنهما شارحا ارسطو اليونانيين طميستيوس والاسكندر يراقبان المشهد خشوع. مباشرة على يسار العمود المركزي يقف ابن رشد بلحيته البيضاء الكبيرة، الجسد تغطيه عباءة صفراء طويلة، ينظر إلى ارسطو في الجانب المقابل له خلف العمود. حركة يده اليمنى تشير إلى مشاركته في النقاش الدائر بين ارسطو وافلاطون. إنها إيماءة توحي بالوقار ليست خافية عن الفنانين المسلمين القرن وسطيين وسابقيهم الهيلنيين. استحوذ ابن رشد على مكانة مقربة من ارسطو، لم تحصل للشراح اليونان الآخرين. من ورائه وعلى يسراه، شخصين يحمل كل منهما كتاب، الاول ابن سينا يغطي راسه عمامة يعلوها تاج (بخطأ في ترجمة"لقب الرئيس" جعل اللاتينيون منه "اميرا للفلاسفة")، ملتحفا بكساء طبيب ايطالي، واخيرا صوِّر توماس الاكويني Thomas d’Aquinفي شخص مكلل الرأس بلباس قس دومنكاني.
هذا المشهد، الذي يعبر عن برنامج الدراسات الفلسفية المتبع في الجامعات الايطالية واهتمام تيار من الانسانيين بارسطو وشارحه الأكبر العربي، تتباين مع لوحات معاصرة لها تعبر عن: 1) القطيعة مع الارث العربي مثل لوحة الفلاسفة الثلاث لجيورجيون Giorgione(1504-1508) التي أجمع على تأويلها تبعا لارنالدو فريغوتو Arnaldo Ferriguto سنة 1933، على أنها تَمَثُّل لتاريخ الفلسفة (مشخصة بالارسطية، الرشدية، والأنسنة مرموز إليها بشاب يعطي ظهره للمعلمين المؤسسين للتقليدين اليوناني والعربي)، 2) لا شرعية دور المعلم للعرب ووظيفتهم كحلقة وصل بين أوروبا عصر النهضة والعصر القديم، كما هو الشأن في جدارية مدارس اثينا في الفاتيكان من أعمال رافائيل Raphaël (1508) أين يظهر ابن رشد في هيئة قرصان عثماني متوحش دخيل يظهر وسط مجمع الحكماء والنبلاء الإغريق والرومان. أو بصفة جذرية 3) الإزورار والنأي عن الأنوار العربية (التي عنونها بيتررك العودة الى المصادر الاغريقية والرومانية القديمة) المعبر عنها بلوحة الانتصار الشهير للقديس توما الاكويني Triomphe de saint Thomas المنسوبة الى فرانشيسكو تريني Francesco Traini ، و فيها: يوقع اللاهوتي المسيحي الفيلسوف العربي ابن رشد أرضا كما فعل القديس جورج Georges مع التنين في الاسطورة. إلى كل هذه التصورات المختزلة، تنتمي أنسنة القرن الخامس عشر الايطالي إلى الواحدة أو الاخرى من تياراتها. منمنمات جيرولامو الكريموني قد ترجمت بوضوح المواقف من الثقافة العربية كتلك التي دافع عنها بقوة بيكو الميراندولي.
1483، هي السنة التي عمل فيها الناشرون الانسانيون على تعزيز حضور المتن الرشدي بترجمات جديدة عن العبرية. في بداية هذه العودة إلى العرب، إذا افترضنا أنهم كانوا قد أفلوا، نجد مدعمين لها أمثال الكردينال-فيما بعد- غريماني Grimani وعلماء من أمثال بيكو الميراندولي، كما نجد مترجمين يهود أمثال: ايلياس كريتونسيس Elias Cretensis أو ديلمديغو del Medigo. هذا العالم اليهودي كان نفسه من ذوي النزعة الإنسانية، وكرؤسائه غريماني وبيكو الميراندولي، قد حرص على أن لا يفصم العلاقة بالماضي اللاتيني والعربي القرن وسطي: مخاطبا بيكو الميراندولي في رسالة شرح له انه ينبغي للمترجم أن يجد حلا وسطا بين الترجمة الحرفية التي تمتاز بها القرون الوسطى اللاتينية (la vulgate) (verbum et verbo) والمتطلبات عصر النزعة الانسانية الجديدة من أناقة وبلاغة. في هذا السياق تطورت الترجمات للاعمال العربية انطلاقا من العبرية الى درجة أنها خلفت ما نسميه بـ" الإكتشاف الثاني للرشدية"(H.A. Wolfson, « The Twice Revealed Averroes », in Speculum 36, 1961, p. 373-92, ، الاكتشاف الأول هو ما تم في القرن الثالث عشر. من الجدير الاشارة إلى أنه منذ 1497 نشر أعمال الفيلسوف الاندلسي الكبير، لم يقتصر على الشروح الأرسطية بل تعداه إلى مؤلفات فلسفية أخرى مثل: تهافت التهافت بتعليق أوغستينو نيفوAgostino Nifo -نفسه-، الذي فضل شراح ارسطو من اليونان بعد انتصاره للإنسانيين. تواصلت الرواية العربية-اليهودية-اللاتينية، بطريقة أو بأخرى مستندة على قاعدة نشريات أعمال ارسطو مع شروح ابن رشد الى غاية منتصف القرن السادس عشر. القطيعة جاءت في طبعة البندقية لسنة 1562 التي أنجزها توماس يونتا: لأول مرة يكون فيها المصدر الأول الذي إتخذ كقاعدة منه تمت الطبعة للمتن الأرسطي يونانيا وليس عربيا-لاتينيا. بنشر أعمال الفيلسوف اليوناني وشارحه العربي مجتمعة في طبعة واحدة، سعى الناشر إلى التوفيق بين الإنسانيين والأكاديميين بحجة أنه إذا كان الشراح اليونان قد وضحوا أعمال ارسطو، فإن مساهمة شراحه العرب لا تقل أهمية عن ذلك لأنهم كشفوا عن المسائل الصعبة التي تركها غامضة بلا شرح. في النصف الثاني من القرن السادس عشر ، يكون قد إنتهى عهد أرسطو اللاتيني وأكثر منه ابن رشد اللاتيني: كلاهما فقد هالته ومكانته. بالنظر إلى الواقع اليوناني والمقاربة الفيلولوجية فقد أصبحا مجرد مؤلفين من بين آخرين. إنها ثورة ثقافية، باسقاطها لهيبة المرجعيات أرست النهضة الايطالية أسس الحداثة الثقافية والفكرية في أوروبا.
الحكم بالعربوفيليا على بعض المفكرينين الإنسانيين أمثال: فرونسوا رابليFrançois Rabelais ، غيوم بوستلفيني Guillaume Postel-Vinay، نيكولا كلينارد Nicholas Clénard، جوزيف سكاليجر Joseph Scaliger وغيرهم كثير، فإن هذه الحداثة الأوروبية الأولى لم تنكر أياً من تعاليم المعلمين العرب " إنه راي وصلنا عموما من القرنين الخامس عشر والسادس عشر، بأن عرب اسبانيا طوروا العلوم ببراعة (في وقت كانت فيه اوروبا غارقة في الجهل) لقد نقلوا الذوق والانجازات الكبرى إلى الغرب، ناجين من ظلمات البربرية" كتب ايمابل جوردان Aimable Jourdain، مؤسس الدراسات النصية الأرسطية. أوروبا الحديثة لا يمكنها إذن أن تنفي إنتصار أوروبا اللاتينية للثقافة العربية:" بالاحتفاء بهؤلاء العرب الاسبان من النهضة الانوارية، نكون قد توافقنا مع تقاليد حفظت عبر الاعصار، التي نقلتها لنا الذاكرة لحدث صحيح جدا. الرأي ذاته ساد طيلة القرن السابع عشر" (A. Jourdain, Recherches critiques sur l’âge et l’origine des traductions latines d’Aristote, 1843, p. 5-6).. رفض الاعتراف بالفضل لم يبدأ إلا في القرن اللاحق وبالاخص في القرن التاسع عشر الذي " نُسِيَ فيه الفلاسفة العرب".

 النظرة الإغريقية للانسان وللثقافة: أنسنة بلا حدود

رغم ماذكر، فإن القرن التاسع عشر نفسه، الذي يبدو وكأنه اخترع النزعة الانسانية فقط ليمنح التفرد لأوروبا الحديثة، لم يمنع من وجود تيار فكري يتخلل الأنوار الالمانية Neuhumanismus ليوسع تطبيقها إلى باقي الثقافات الأوروبية وغير الأوروبية التي خاضت التجربة التاريخية للهيلينية، مهما كان مكانها وزمانها. لهذا التيار الفكري تنتسب معلمتنا، وكل ما تعبر عنه: "الأنسنة المتوسطية" التي تأخذ معناها من انخراطها في أفق التجربة اليونانية المؤسِّسَة.
متعددة بأشكالها وتعابيرها التي إكتسبتها عبر تطورها التاريخي، هذه الأنسنة المتوسطية تستمد تناسقها الاصطلاحي من قناعتها بوحدة الإنسان ومفهومها للثقافة الذي تجعل منه طبيعة إنسانية ثانية، في حين ان الانسان والثقافة كلاهما مفهوم يوناني. يعود الفضل لليونان لأنهم ابتكروا الانسان كتجريد أسكن الفلاسفة الوحدة في طبيعته ( الطبيعة الانسانية/ phusis anthropon) وجعلها الطب الابوقراطي في أساسه الفيزيولوجي والاخلاقي (Calame, Masques d’autorité. Fiction et pragmatique dans la poétique grecque antique, Paris, 2005, 237-273) كما يرجع الفضل لهم في تطوير مفهموم الثقافة والتربية التي تنمح للفرد أن يعيش كامل إنسانيته بتحرره من قبضة أهوائه.
لقد استوعبت الثقافات الإنسانية المتوسطية هذا المثال المعرفي والعملي منذ أن أَوْلَت إهتمامها للعصر القديم اليوناني، بغرض امتلاك موروثه، بعدما جعلت من اكتماله قمة ومن مواصلة تقليده (التراث اليوناني) وسيلة لبلوغ تمامها(إكتمالها)، دون أن تقصي إثراءه بتجاربها الروحية الخاصة. بغض النظر عن الجغرافية ما نقصده هنا بمتوسطية هو هذا التوجه الثقافي ومراجعياته المؤسِّسَة.
ألمح جورج فويغت Georg Voigtمنذ اواسط القرن التاسع عشر، إلى إمكانية وجود أنسنة كهذه في كتابه"نهضة العصر الكلاسيكي، أو القرن الاول للأنسنة(Die Wiederbeledung des classischen Alterthums oder Das erste Jahrhundert des Humanismus ) "، الصادر في برلين في 1859 ، سنة قبل الكتاب الأساسي ليعقوب بورخارت Jacob Burckhardt ، وترجم إلى الفرنسية بعد الطبعة الثالثة سنة 1894 بعنوان: بيتررك، بوكاتشي وبداية الأنسنة في ايطاليا Pétrarque, Bocacce et les débuts de l’humanisme en Italie [http://gallica.bnf.fr/ark:/12148/bpt6k99784s].
واقعا فويغت، أول المؤرخين الذين أقروا أن أنسنة القرن الخامس عشر الايطالي، كانت حركة أدبية تشكلت بالعودة الى العصر القديم، ويكون، بالاضافة إلى أنه أول من رسم حدودها إلى درجة تكذيب أطروحة الابتكار الجذري التي ارتبط باسم صديقه بورخارت Burckhardt:" إذا -لاحظ-، أردنا تعداد كل كتاب القرون الوسطى الذين تمكنوا من كلاسيكيات العصر القديم واقتبسوا منها كثيرا، نجد أنفسنا أمام قائمة طويلة من الاسماء، وأغلبها قيِّمة، نكون هكذا قد نظرنا تقريبا الى الحماس المندفع، الذي أحيا به القرن الخامس عشر العصر القديم باطلا إلى حد ما" (op. cit., p. 5)، لكن هذا التقليد للعصر القديم كان محدودا. أمام سطوة الكنيسة "بقيت مجهودات علماء القرون الوسطى من أجل إحياء الآداب الكلاسيكية عقيمة تماما وبلا أي أثر على الروح العامة لهذا العصر"(op. cit., p. 8). كانت فيه الثقافة، التعليم والعلوم حكرا على الاكليركية(الكنيسة) والتي لم تسمح إذن للمؤلفين اللاتين الكلاسيك بالدخول إلى المدارس والجامعات ليكونوا أنفسهم مادة دراسة، بل على العكس من ذلك، جُعلت دراستهم في خدمة العلوم الأخرى كاللاهوت والفلسفة لتكملة النقائص وحل الغوامض، بطريقة لا يمكنهم معها الحصول على أي استقلالية، حتى عند عقول نيرة من أمثال ابيلارد Abélard وجون دي ساليسبوري Jean de Salisbury.
لكن فويغت، لم يعتبر فقط ان العصر الوسيط اللاتيني لم يكن جاهلا بالثقافة الادبية الكلاسيكية، بل اكد كونها" تعبير عما هو انساني خالص لما في روح وفي قلب الانسان، الانسانية بالمعنى اليوناني واللاتيني"، النهضة ليست امتيازا اوروبيا وليست خاصية لفترة زمنية معينة من تاريخها:" ظاهرة شبيهة-يشرح- إلى حد ما، بما حدث في عالم العصر القديم، عندما هبت رياح الحضارة الهلينية على اسيا، وبالرغم من كبريائها، روما خضعت بدورها لهيمنة الروح اليونانية"(op. cit., p. 4).
لم ييستشعر فويغت Voigt ، الطابع العابر للتاريخ لهذه "الظاهرة الشبية الى حد ما" والتي تجاوزت أواخر العصر القديم وجدت امتدادا لها خاصة في الثقافتين العربية-الاسلامية واليهودية-العربية، لا داعي لذكر السريانية، قبل أن تفتح لها اوروبا اللاتينية أبواب جامعاتها وأديرتها، وتسرع هكذا في نهضتها الفكرية بطريقة حددت طبيعة علاقتها مع الموروث اليوناني. تشاركت الثقافات الجديدة مع الثقافات الهيلينية القديمة مجموعة من المرجعيات المؤسسة: فلسفة انتروبولوجية شكلت الانسان في وحدته الأساسية، تربية جعلت من إتباعها نموذجا ومثالا للكمال ومن أخلاقها وعدا بالسعادة في هذا العالم الأرضي، وعي بالزمانية التاريخية، ذاكرة وتبجيل لمورث العصر القديم، ممارسة الترجمة التي سمحت بالتواصل مع الماضي، التحاور مع الاوائل، وكذلك صنعت من نفسها حاويا للحكمة الخالدة. الكتابة إذن-في كل مرة- في قلب هذه التقاليد الانسانية، أصبحت بالمعنى الكامل "ثقافات الكتاب"، كما طورت التنقيب من أجل التنقيب والنقد النصي إلى حد جعل من الفيلولوجيا العلم الإنساني الأول. وعليه فإن كل ثقافة انسانية هي ثقافة فيلولوجية، والعكس بالعكس. تمتلك الفيلولوجيا تلك القدرة الهائلة على أنسنة كل ما تلامسه. بمعيارها كل النصوص تعالج بنفس الاهمية، سواء كانت: ميثولوجية، دينية، علمية أو أدبية، بعبارة أخرى مقدسة أو مدنسة. عندما أصبحت قوة مادية إنتهى بها المطاف إلى الجمع والمكتبات الطامحة الى الحصول على كل كتب العالم واستقبالها في مكان واحد، لتكون بمثابة مؤسسات يحفظ بها أكبر إنجازات العقل البشري. إنها وسيلة للثقافات المكتوبة التي أنتجتها لتبين لنفسها وللاخرين بأن لا شيء مما هو إنساني يمكن أن يكون غريبا عنها.

 مقاربة موسوعية سياقية أو تعميمية

كيف سيعيد الايطار النشري الحالي الاعتبار لهذه الثقافات؟ كيف يريد تقديم ما يوحدها دون أن يطمس ما يميزها عن بعضها البعض؟ كيف سيسطر ما يجمعها دون السكوت عما يفرقها؟ هذه التساؤلات تمكننا من الحذر، بتذيكرنا بالتقارب الشديد بين طريقة عرض وتقديم نتائج المعرفة وعملية انتاجها. مع الاسف الاجابات النظرية عليها شيء، وإيجاد مقابل تطبيقي لها شيء آخر، مع الاحتفاظ بهامش للشك واللايقين الذي يتولد عن أسئلة مماثلة. الحل الوسط ( والذي لا يعتبر تسوية) يكون بمعالجتها بطريقة براغماتية.
عادة، وللتوافق مع متطلبات النوع، تقدم الموسوعات مادتها حسب محورين: أحدهما أعلام، والآخر مواضيع: الشخصيات التاريخية مع سيرهم الذاتية من جهة، الحركات التاريخية التي كانوا فاعلين ضمنها أو مساهمين فيها من جهة أخرى. ما من حاجة إلى التورط في شروح طويلة للقول بأن تحت تواضع مظهرها التعليمي عملية الكتابة مثل هذه تستند إلى نظرية معرفة. تعبر طريقة الكتابة هذه عن حدود وتناقضات النوع الموسوعي كونه عالم من جهة، عامي من جهة أخرى.
حتى لا تخيب أمال قرائها، هذه الموسوعة تحيد عن الطريق المعتادة: مداخل بيوغرافية من جهة ومداخل مواضعية من جهة أخرى. لكن لا تتبنى هذا الموقف لاسباب نظرية إنما لاعتبارات عملية بحتة: لا تريد أن تكون محل استعمال مزدوج مع كل المعاجم والموسوعات، المتخصصة والعامة، العالمة والعامية، التي تترجم للشخصيات المذكورة هنا. بما أن النشرة البيوغرافية صعبة التجديد، فإنها سرعان ما تتحول إلى مجرد تكرار. وهو ما تسعى هذه الموسوعة إلى تفاديه.
مرتكزة على أساس مواضيعي، تمنح الموسوعه لنفسها وسائل تنويع موادها، مع التعريف بها عن قرب. من دون إدعاء الالمام التام(الامر يتنافى مع نوعية الكتابة الموسوعية)، تسعى بطريقة توفر لقرائها مقالات أكثر من مجرد أن تكون نشريات بسيطة، إنما دراسات حقيقية تجمع بين الدقة والعمق.
بقي في الاخير، أن نحل المسألة السردية لـ"وجهة النظر". هل نتبنى: النهج السياقي أو التعميمي؟ سواء تعلق الأمر بالمواضيع المعتبرة من وجهة نظر داخلية (أي تؤخذ كل ثقافة لحالها وفي ذاتها) أو خارجية (باعتبار الثقافات في شموليتها في جزء منها أو في كليتها)، لا المناهج ولا طريقة التأليف تتشابه. دون نسيان أن تطور هذه المواضيع المعالجة لم يكن متماثلا من مجتمع لآخر ومن ثقافة لأخرى. لأنها تكبدت الاختلاط بالشوائب والمفارقات التاريخية، بدت المقاربة التعميمية صدفية، ولذلك المقاربة السياقية هي التي رُجِحَت.

هواري تواتي