الصفحة الأساسية > العربية > ص > صداقة

صداقة

كل اصدارات هذا المقال: [عربي] [français]


تعتبر الصداقة من أهم المفاهيم التي شغلت تفكير الفلاسفة الانسانيون العرب قديما، الى درجة انهم خصصوا لها العديد من الرسائل والكتابات عدى تخصيصهم فصل أو أكثر في كتبهم الاخرى. ولأنها عولجت بشكل كبير في كتابات المسلمين فسنكتفي هنا بتناولها من خلال كتاب الصداقة والصديق والمقابسة رقم مئة وستة من مقابسات ابو حيان التوحيدي (ت. 414/1023)، في تهذيب الاخلاق وتطهير الاعراق لمسكويه (ت.421/1030) وفي رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا. تندرج هذه الدراسة في ايطار جغرافي يمتد من العراق الى غرب ايران، في تلك المنطقة من الامبراطورية الاسلامية التي حكمها الامراء بني بويه في القرن الرابع الهجري، كان لامرائها ووزرائها حياة فكرية وثقافية مزدهرة، تميز حكمهم بانتشار جمعيات فكرية مثل جماعة اخوان الصفا، حلقات ادبية مثل حلقات : الفيلسوف ابوسليمان السجستاني (ت. بعد 391/ احتمال سنة 410 هجرية) وابن سعدان، وحلقة الوزير صمصام الدولة (983-987)، وحلقة امير العراق البويهي، شارك التوحيدي ومسكويه في التنشيط الثقافي والفكري في هذه الفترة. في ظل هذه الحلقات الفكرية والتبادل العلمي الثقافي بدأ مفهوم الصداقة يتشكل إما في هذه الحلقات حول معلم بعينه أو مصاحبة ومؤانسة اجتماعية، من خلال الاحتكاك مع هذه الاوساط الخاصة واللقاءات الفكرية.

بشكل عام تعرف الصداقة على أنها علاقة اجتماعية بين فردين أو أكثر من الناس. لأول وهلة لا تبدو واعدة بأي حياة مستقبلية كما انها ذات طابع دنيوي رغم أنها تتم في سياق ديني. علاقة الصداقة بين الناس تختلف باختلاف الروابط الانتماء الى نفس الجماعة الدينية، التي ينتج عنها الانخراط في نفس المعتقد. تبنى الصداقة –بمعنى أدق- على"ألفة إنتخابية" والإعتراف المتبادل. تختلف علاقة الصداقة عن الروابط العائلية والقبلية، التي يحددها الدم والمصاهرة، كما أنها ليست علاقة عاطفية أو غرامية، وليست علاقة جورة كذلك، التي تحدد في المجال المشترك. تقوم روابط الصداقة اساسا على الرغبة في التواجد معا، الثقة، الوفاء، الولاء، التعاون، احترام الآخر، تتطلب الرعاية والمساعدة المتبادلة، التي تعزز المحبة. تساهم الصداقة بهذا المعنى في إدخال الاسس الاخلاقية الى العلاقات الانسانية، القائمة على ما يتوقعه كل إنسان من الإنسان الآخر، مثيله، في الصداقة يربي الإنسان نفسه، يحاسب نفسه، يحسن سلوكه، يطلب الفضيلة والكمال. كما أن الصداقة تعطي إمكانية لقيام أخلاق إنسانية على أساس الطبيعة الإنسانية ذاتها. ألا تساعد على ظهور اشكال جديدة من التضامن،"إنسانية مفرطة ف ياالنسانية"، في هذه المنطقة الشرقية من الامبراطورية الاسلامية، في القرن الرابع الهجري التي ميزتها التعددية الاثنية، اللغوية والدينية؟ ألا تمثل قوة، ودعما يمكن أن تحدث في هذا المجتمع التعددي والمتحضر في ذلك العصر، عن طريق العصبية التي كانت تحرك القبائل قديما؟

 التوحيدي: صداقة ومؤانسة

يفتتح كتاب الصداقة والصديق بالحديث عن حقيقتين واقعيتين لكن متناقضتين، أولهما الصداقة الحقيقية التي تربط الفيلسوف أبو سليمان بن طاهر السجستاني بالقاضي أبو بكر بن سيَّار، ممثلة في أقوال ابو سليمان التي يقدمها التوحيدي، ومن الطرف الآخر العلاقات الاجتماعية التي يغلب عليها النفاق، الخيانة، الضغينة، والخداع على أوسع نطاق. وضع المؤلف الصداقة التي تجمع بين الفيلسوف والقاضي المؤلف في قلب الكتاب (مثل القلادة من العقد)، مضفيا عليها صبغة براديجمية (أنموذجية)، لضرب مثال موجه ومنظم لتفكير القارئ في تجوله داخل فصول الكتاب. توصف هذه الصداقة المثالية بأنها وجد عاطفي، علاقة متبادلة، وهي في نفس الوقت نوع من التآلف الفكري، والتواطؤ النفسي (ممازجة نفسية) وتفاهم بين الطبائع (مواطأة خلقية). وتؤسس لفضاء خاص للتجمع والتوحيد بين الذوات البشرية، تسوده الثقة المتبادلة التي يتولد عنها الطمأنينة والسكينة. يحدد المجال العلائفي الشخصي كفضاء مشترك للنقاش والتبادل، اين يمكن أن نقدم ملاحظات أو انتقادات دون ان يحرج المحاور، فضاء يمكن البوح فيه بأسرار الخاصة، ورواية الاحلام الشخصية وبسط الافكار وطرحها. تظم بالاضافة إلى هذا الجانب التواصلي، بعدا أخلاقيا مهما، تتمثل في طهارة النوايا وبراءتها بين الصديقين،التقاء إرادة ومبتغيات الاصدقاء. وكذا في المساعدة والتعاضد الموجود في الصداقة. يؤكد التوحيدي على التكافؤ الذي يسود علاقة أبو سليمان وابن سيَّار: في الثروة، الطبع والذوق. يبدو أن الكاتب يجعل من التوافق بين المتشابهين مبدأ لتفسير الصداقة، لكنه سرعان ما يتدارك ذلك ويضيف اليها التنوع واختلاف الطبع والفروق الشخصية. يتميز كل صديق عن صديقه بالمهنة والانتماء للوطن. الاول، الفيلسوف متوجه الى الداخل إلى الفكر إلى أسرار الوجود والبحث عن الحقيقة، أما القاضي فاهتمامه الى الخارج، نحو الحياة العامة ومصالح الناس. بهذا الشكل فإن الصديقين يختلفان في اهتماماتهما وانشغالاتهما اليومية، اما الصداقة التي تربطهما فهي ترتكز على الشعور الذي يحقق الوحدة بين اعضاء الجيد الواحد. لا تعتمد على المنتمين نفس البلاد لأن ابو سليمان من مدينة سيجستان، جنوب حرّان، بينما ابن سيّار تعود اصوله إلى البصرة. الصداقة المذكورة هنا تتفوق على الحدود والمسافات، يمكن أن تكون عالمية بغض النظر عن الموقع الجغرافي. يعارض التوحيدي من خلال تقديمه لهذه العلاقة بين الفليسوف والقاضي على انها مثال ونموذج للصداقة تلك النظرة الاجتماعية الطبقية في زمانه الذي عرف فيه -على ما يبدو- الشكل الثاني من الصداقة تلك الرابطة المتوهمة والمتغيرة المبنية على"الرغبة والخوف"، "..." (Tawḥīdī, al-Ṣadāqa wa-l-ṣadīq, p. 32) . لا هتم أغلبية الناس من العوام الا بمعاشم ولذلك فهم غرباء عن أي اهتمام بالاخلاق وبالتالي فهم مضادون للصداقة ورافضون لها. ينشغل التجار بالربح المادي والجشع، تخلو اخلاقهم من الفتوة والمروءة، ويمهدون لتثبيت هذا النوع من الصداقة الحقيقية. بينما يقوم الموظفون السامون في الدولة والعلماء بما يمتلكون من فتوة ومروءة ينخرطون في الصداقة، لكن المنافسة، التحاسد، التماري، غالبا ما يلطخ صدق النوايا وتضر بروابط الصداقة التي يمكن نسجها بينهم. فهم نادرا ما ينفتحون على الإخلاص والوفاء في الصداقة، عكس ما يبدونه من ورع وتقوى التي تبنى عليها العلاقات التي يربطونها مع الناس والقائمة على الخوف من الله. وحسب التوحيدي فإن الامراء وحاشيتهم ومن الملك بأيديهم لا يعرفون إلا علاقات السيادة، الامر الذي يمنعهم من خلق مجال حقيقي للتبادل، وعجزهم عن استقبال أي كلام لا يتصف بالتزلف والتملق، فكان لديهم أصدقاء متملقون، تقوم صداقتهم على الخوف والمدح.

لا يتمسك التوحيدي باستنتاجاته وملاحظاته للطابع اللا جتماعي الذي يسود الحياة العامة للناس. فمن الأسطر الاولى لكتاب الصداقة والصديق، يشير الكاتب إلى مفاهيم أخرى مثل عِشْرَة، مؤاخاة، ألفة، التي تتجاوز المجال الشخصي الحميمي لتستقر في النظام العام للمجتمع المدني. مكذا يربط مفهوم العشرة بين الصداقة مع الحياة داخل الجماعة في يوحي مفهوم المؤاخاة –كما يقول S.Natij (2008, p. 247) )، على أن تبنى على "الأخوة الانسانية بشكل عام وموسع". الالفة، ان يعتاد الانسان على الانسان الاخر، ويصبح مستأنسا، ويتوقف عن كونه غريبا عنه. الصداقة التي سبق ذكرها اعلاه، هي توحيد ذاتين متشابهتين في الطبع ومتكافئتين في الحظوظ التي قدرت عليهما من الرزق. ينقل التوحيدي على لسان ابو سليمان، عندما وصف علاقته بابن سيَّار"وكأنني هو وكأنه أنا" (Ṣadāqa, op. cit., p. 30)، يقترب هذا الوصف من مقولة ارسطو:"الصديق هو آخر للذات"(Aristote, Ethique à Nicomaque, 1166a31, p. 185).. جملة ارسطو اعيد صياغتها كالآتي:"..." (Ṣadāqa, p. 69 ; Muqābasāt, p. 355). راجعها الفيلسوف ابو الفضل النسغاني، في المقابسة رقم مئة وستة عشرة من كتاب المقابسات، وشرحها السجستاني في الصداقة والصديق. قدمها التوحيدي في النص الاول كتعريف حد(...) التي تغذي العقل في حين ان هذا يعطي لها بعض الصحة النظرية ولكنها اثبتت أنها غير ممكنة في الحالات الخاصة بين اصدقاء لا يتشابهون. لكن من الناحية الاخلاقية فإن الشروط التي يضعها حسب النصغاني، تضفي عليها قيمة عملية وتجعل منها قاعدة التي تضبط على اساسها المعاملة مع الصديق الى افق أعلى منه نبلغ الصداقة الحقة. في حين يدعو السجستاني الى معنى أوسع واشمل لمفهوم الصداقة باتجاه مفهوم المؤانسة، يعتبر الكلام ارسو حدا اقصى "أعلى درجات التفاهم الذي يربط بين صديقين". الصداقة إذن تعرف انها عملية توحد بين ذواتين : "يبدأ مع التوحد ببذل الجهد لأن يكونا ذاتا واحدا، ليصلا في النهاية إلى اتحاد حقيقي". هذا التوحد بين الفردين يمر عبر تواطؤ كبير بين الارواح، والتقارب يكبر أكثر فأكثر إرادة في الاحترام، بعبارة أخرى، بميلاد فضاء لعلاقة كثيفة : "تتوحد عاداتهما وارادتهما تصبح واحدة". عملية التوحد، هي بمثابة عملية تحديث من صديق الى صديق، حسب أبو سليمان تمتل في ذاته القدرة، على أن تنتشر تقديرا على المجتمع بأكمله. (...) (Ṣadāqa, p. 69-70). كما يتضح من أنها مبدأ عام لتعريف، للمماثلة للتشابه ولربط الناس بعضهم ببعض، تندرج الصداقة بهذا المعنى ضمن المؤانسة او الاستئناس على مستوى أرقى على نموذجها القائم على العلاقة الاخلاقية مشكلة بذلك نسيجا اجتماعيا. يشير التوحيدي بخصوص ذلك إلى أن مجمل القول الذي أورده عن الصداقة في كتاب الصداقة والصديق يجب إحالته إلى المقولة القديمة: "الإنسان مدني بالطبع" قال ارسطو: "الانسان كائن مدني ووجد لليعيش في مجتمع" ( Éthique à Nicomaque 1169b18-19, p. 193) أو"الإنسان حيوان مدني بالطبع" (La politique 1253a2, p. 28). اللفظ مدني هو ترجمة للفظ الإغريقي politikos(إجتماعي، سياسي) ، ويعود أصله الى المدينة الاغريقية la polis. كون الإنسان إجتماعي بطبعه فإنه سيسعى ضرورة إلى ربط علاقات، على مثال الصداقة، القائمة على إشراك الاخرين في الحوار والحياة داخل الجماعة.

تعقيدات الصداقة والمؤانسة الاجتماعية متجذر في المفهوم الاغريقي philia "فيليا" مثلما شرحه ارسطو في الفصلين الثامن والتاسع من الاخلاق إلى نيقوماخوس. يميز ارسطو بين صداقة حقيقية philia ، صداقة بالمعنى الحرفي للكلمة وهي ما يوحد الانسان مع أناه الأخرى (ممثلة في صديق موثوق) كتلك التي تربط أبو سليمان بابن سيّار. الصديق الحق يتعلق بالصديق، ليس لدواع صدفية من باب جمع الإفادة بالإمتاع، وليكون الآخر هو في ذاته بالماهية، من أجل الخير الاخلاقي المكنون في شخصه، والذي يمكن للأول أن يساهم فيه عن طريق فضيلته. إلى هذا المعنى الاولي والاساسي لـــ philia ، أظيفت الانواع الاخرى لـــ philia-s، والتي يجب أن تفهم على ضوء المعنى الأول المذكور هنا، ينطبق أيضا على صور الـــ philia "المخففة والمنتشرة" (L.E. Goodman, « Friendship in Miskawayh and al-Ghazālī », p. 170) Aristotle, ، التي تربط بين المواطنين وتضمن اللُّحمة الاجتماعية، التي تمنح بدورها الوحدة للمدينة. هذه المدينة –في الواقع- هي كم وافر من الأفراد توحدهم التربية على الفضيلة وتحركهم روح التعاون في العمل سعيا إلى المصلحة العامة للجماعة. ولذلك لا يحتاج الناس للصداقة بالمعنى الاول للفظ philia من أجل الحياة بانسجام داخل المدينة. الصداقة (philia) الاجتماعية لا تتطلب حميمية حقيقية، ولا تفاهما من نوع خاص، ولا محبة عميقا، إنها تجمع بين ذوات مختلفة دون أن تنصهر فيها الهويات المتعددة.

 مسكوية: محبة وصداقة

يركز مسكوية مثل التوحيدي على المفهوم الارسطي لــ philia "فيليا" عندما يجعل من الصداقة وعلاقتها بالتأنس الاجتماعي في كتاب تهذيب الاخلاق وتطهير الاعراق. هذا الكتاب الذي يبدو فيه تأثر صاحبه بالاخلاق إلى نيقوماخوس الارسطي، يحدد غرضه من خلال التاكيد على ماهية الروح، وتعريف الانسان بالكمال الذي يمكنه تحصيله، يمكنه الوصول الى كماله الشخصي والسعادة التي تنتج منه، عن طريق تصليح طبعه وتطهير أخلاقه. يحتاج الإنسان إلى غيره لاظهار مواهبه الطبيعية وتحقيق إنسانيته، لا يكتفي بذاته، لأن تنمية الأنس الاجتماعي شرط ضروري للاكتمال الفردي. ويذكر مسكوية مقولة ارسطو"الانسان مدني بالطبع"، ولذلك على الإنسان أن يجدد قدرته الكامنة فيه طبيعيا على الاستئناس، وذلك بتحقيق مهاراته، في بلوغ الفضيلة وتحصيل السعادة. يحدد مسكويه في التهذيب طريقين لتفعيل الإستئناس الاجتماعي الملازم للانسان، الأول موضوعي وهو ترسيخ قواعد العدالة، التي تجذب الناس الى بعضهم البعض خارجيا، وتساهم في صناعة نسيج إجتماعي شامل، والثاني ذاتي، عاطفي، انفعالي هو المحبة، التي تربط بين الناس القريب فالاقرب، وتخفيف الاختلافات بينهم ويساهمون داخليا في جعل المدينة كالفرد الواحد:"..." (Miskawayh, Tahḏīb, p. 149). الملاحظ هنا أن التوحيدي ومسكويه رغم اعتمادهما على المفهوم الارسطي philia فيليا، عن طريق الصداقة philia إلا انهما يختلفان حول المدلول الذي يعطيه كل منها له، بالنسبة للأول التوحيدي فهو مفهوم أساسي به يمكن تحديد الصديق كآناه الأخرى alter ego ، ويمنحه دور المثال، نموذج، الذي يضبط العلاقات الاجتماعية. أما الثاني مسكويه يقترب أكثر من مفهوم أرسطو، فهو يعطي للمحبة ترجمة لـ philia ، نفس البعد الارسطي لهذا اللفظ. وفي المحبة نجد الجانب الموضوعي للمؤانسة الاجتماعية بكل أشكالها (العلاقات العائلية، رعاية الملك لرعاياه، الحمد والشكر الذي يظهره الرعايا لملكهم، روابط الاخوة التي تجمع الافراد ببعضهم البعض، الشعور بالإنتماء إلى نفس الجماعة الدينية...) كلها تتدخل بدرجات متفاوتة في نسج الروابط الحقيقية في المجتمع. يقدم مسكويه في هذا الشأن تفسيرا "تجديديا للدين الاسلامي" (M. Arkoun, L’humanisme arabe, p. 34). إجتماع الناس في المساجد من اجد تأدية الشعائر"..." (Tahḏīb, p. 154). تفضيل صلاة الجماعة على الصلاة الفردية الذي تفرضه الشريعة يفسره صاحب التهذيب على أنه تشجيع"..." (Tahḏīb, p. 154 et p. 153). هكذا يتولد عن هذا التناغم الداخلي امكانية التواصل في الايمان الذي تساهم فيه الصلاة لرفع مستوى النسيج الإجتماعي. في حين أن الصداقة تمثل نوعا خاصا من المحبة: إذا كانت تلك تعرف على أنها حالة شعورية، فإن هذه تعتبر مودة في ذاتها، بخلاف الأولى في:"..." (Tahḏīb, p. 151)، أما الثانية لا تجمع إلا عددا محدودا من الناس. تشكل الصداقة صورة مركزة ومحققة من المحبة، فهي تحتوي داخل فضائها الخاص، المحدود، فوائد المؤانسة التي تتم في الفضاء العام. بهذا تفتح الصداقة سبيل السعادة للافراد الذين لا يمكنه الاكتمال ذاتيا إلا بوجود الآخر، لأنه بوجود صديق الذي يضع من أولوياته النجاح في صقل شخصيته والوصول إلى الكمال الذي باستطاعته تحصيله. كذلك إختيار الصديق يتطلب الفطنة والحذر. يقترح مسكويه من وجهة النظر هذه، عدد من النصائح مبنية على اساس تجربته ومعرفته بأهواء النفوس التي تحرك الناس. ملاحظاته للناس مشفت له عن النفاق الذي ينتشر بين الناس. تشمل تحذيراته أساسا الكشف الوحش المفترس الذي يستتر خلف لباس الورع (Tahḏīb, p. 169). لتجنب الفخ الذي يخفيه المزورون، لذلك يوصي بإمتحان من يرغب في صداقته. الصداقة علاقة تبادل عادلة، لا توجد إلا من خلال المعاملة بالمثل في الأخذ والعطاء. ويستحسن اجتناب الجاحد، الذي لا يعترف بالجميل، الشحيح الذي يستأثر بالخيرات لنفسه دون غيره، الابتعاد عن المغرور، الذي يجعل العلاقة غير متكافئة، يجب كذلك صدُّ الكسالى الذين يجتذبون الفساق ووسائل الترفيه التي تلهيه عن القيام ما يجب عليه اتجاه الاخرين. يتعلق الأمر هنا بالفطنة والنباهة وبعد النظر وحرص وتشدد في إختيار الصديق. مع ذلك من اللائق إظهار الدماثة، اللطافة، المجاملة، الرعاية، عند لقاء صديق حقيقي، وعدم التوقف عند عيوبه الصغرى، من أجل تحسين العلاقة والسير معه نحو الكمال.

 أشكال الصداقة

على خطى التوحيدي قام مسكويه بالتنبيه إلى دور الصداقة في المؤانسة الإجتماعية ونسج رداء المجتمع ، يلحُّ كونه فيلسوف أخلاقي على أهميه إكتمال الانسان ويقترح كما بيَّنَاه، الفروق المفاهمية الدقيقة بين الصداقة، المحبة والمودَّة. الصداقة فيما قال الاندلسي (نحوي كان احد مرتادي حلقة السجستاني) كما اورده التوحيدي مشتقة في آن واحد من صِدْق الذي يعني إخلاص وسلامة النية، عكس كذب، ومن اللفظ صدق، يعني إستقامة وثقة (Ṣadāqa, p. 88). إذا اخذنا بعين الإعتبار الجانبين معا، فإن الصديق يتصف بــــ الصراحة، الصدق في أقواله وإستقامة أعماله. إستعمال اللفظ صديق يقود مباشرة إلى الطابع الاخلاقي لعلاقة الصداقة التي تربط بين الذوات، فهو غالبا مجموعة من الألفاظ التي تساعد على تحديد دقيق للبعد الاخلاقي للصداقة، على غرار الرعاية، الحفاظ على العهود، الوفاء، المساعدة، تقديم النصيحة، البذل دون حساب، المواساة، الجود، التكرم، لا ينحصر حقل المعاني في لفظ صداقة فقط بل يحتوي على كلمات خاصة، تتفاوت معانيها درجات بسيطة. كل لفظ منها يركز على ميزة خاصة من رابطة الصداقة، أورد التوحيدي كلام عن روح بن زنباع (ت.703)، قال التوحيدي:

"ولو جهل معنى الصديق لجهل معنى الصاحب، لجهل معنى الخليل، وعلى هذا الحبيب والرفيق والاليف، والوديد، والموآخي والمساعد، وهذه كلها على رزدق واحد، وإنما تختلف بالمرتبة في الأخص والأعم والالطف والاكثف والاقرب والابعد والاخلص والاريب"(Ṣadāqa, p. 29).

ومنه الجانب العاطفي من المفهوم، التي توحي به مباشرة اللفظ الاغريقي فيليا philia واللاتيني أميسيتيا amicitia ، عبر عنهما بحبيب أو وديد، يرتبطان كلاهما بالمحبة والمودة. اما لفظ أخ أو مؤآخاة، فهي تقال عن علاقة عائلية (الاخ مع اخيه) أو أخوة في الدين، يصر بذللك على اللُّحْمَة في كتلة واحدة، ووحدة الاجزاء في الكل، الذي يتمثله دائما بمجاز الوحدة العضوية للجسد. اخوة الصداقة يجد أفرادها بعضهم لبعض كأعضاء الجسد الواحد، إذا مس احهدم الضر مس كل الجسد. اورد التوحيدي في هذا الايطار، كلام الحسن بن سهل (وزير الخليفة المأمون) إلى صديق له مريض : "أجدني وإياك كالجسم الواحد، إذا خص عضوا منه ألم عمًّ سائره، فعافاني الله بعافيتك وأدام الإمتاع بك" (Ṣadāqa, p. 47) . يتخذ إخوان الصفا هذا الشكل-أخوة- من الصداقة لتسمية فرقتهم. على الطريقة الماسونية، جماعة إخوان الصفا تصطفي أناسا تجمع بينهم نفس فلسفة الوجود في العالم الارضي والخلاص في العالم الآخر، كإتحاد روحاني يهدف إلى بلوغ مثال الصفاء الفكري الديني والاخلاقي. الطابع السري لمذهبهم الفلسفي وهذه الخاصية كتابهم الرسائل، لمتراسلين من بين أعضاء الفرقة، اعطى هذا الالتباس بالاضافة إلى الطابع المغلق لفرقة "الإخوان" (Y. Marquet, La philosophie des Iḫwān al-Ṣafā’, 1999) . كل عنصر جديد يرغب في الإنظمام إلى الفرقة يشترط فيه مماثلة وتشابها مع زملائه (Iḫwān al-Ṣafā’, Rasā’il, IV, p. 168). الصداقة التي يراها في الآخر هي أنا أخرى، إذن لحمة الكل من الداخل بحيث كل واحد من الإخوة:"..." (Rasā’il, IV, p. 49). ولدّ هذا النوع من الصداقة داخل الفرقة أخلاق الرعاية المتبادلة، تقديم العون والتعاضد، تجعل من الاخوان جماعة حقيقية تتداخل فيها المصلحة العامة بالخاصة. تصبح المساعدة على صعيدين الدنيوي والأخروي، فهي تهم في آن واحد، بالمكاسب المادية في هذا العالم وبالعلوم التي تفتح الطريق للخلاص. وكذلك فضاء التواصلي الخاص، الذي يتاسس بين الناس، فالصداقة الاخوية لا توجد فقط بين الإخوان أين يلتقي التضامن والتآزر مع الاخلاق، ولكنه أيضا مكان أين يلتقي الحوار والتبادل العلمي بالمذهب الديني.

من وجهة النظر هاته أكدت الرسائل على شكل آخر من الصداقة، الجليس، أو المرافق في المجالس. يوجد نوعين من المجالس التي كان الاخوان يحثون مريديهم على حضورها بشكل دائم: أحدها موجه لمتعة الحواس:"..." (Rasā’il, III, p. 14) .، والاخرى موجهة للعلوم، للحكمة لها طعم روحاني كذلك الذي تتمتع به الارواح في جنة الخلد (Rasā’il, III, p. 14) في المجالس الاولى يتخلى الحاضرون شيئا فشيئا عن الجدية التي يتميزون بها ويربطون بين الاخوان علاقة "مؤانسة يغلب عليها المرح والمتعة" (S. Natij, op. cit., p. 259) . أما الثانية فتحدد بدورها فضاء للصداقة يمكن استغلاله في شحذ الذكاء، بينما الاخوة المنتبهون والفطناء فيستغلونها-المجالس- للتعمق في الدين.

أنواع أخرى من الصداقة تحت مسميات: خليل، صاحب، رفيق ، أو صفيق، الخليل بامتياز هو ابراهيم خليل الله (خليل الرحمن). يحمل هذا المفهوم معنى الثقة، القرب الشديد وباطنية علاقة الصداقة. بينما في الصاحب فهو من يرافق وغالبا يعبر عنه بالرفيق في ايطار التبادل التجاري. كان لكل تاجر صاحب يمثله في البلد الذي به تجارته، كما له رفيق يسافر معه تربطه به علاقة مسؤولية متبادلة (S.D.Goitein, Formal friendship in the medieval Near East, 1971). كل من الرفيقين في الطريق يعرفان المبلغ المالي الذي بحوزة صاحبه، وما بضاعته بالتفصيل، ليستطيع الاهتمام بشسؤونه ويخلفه في أي طارئ أو مرض. يحمل لفظ رفيق في طياته معاني التفان للاخر. يدل كذلك مثل الصاحب ضمنيا على ميثاق عهد والتزام. وهكذا سمى محمد أصدقاءه بالصحابة بعد اعلانهم اتباع الدين الجديد، عكس تسمية إخوان التي كانت تصف علاقاتهم المتبادلة داخل جماعة المسلمين. أما الصفيق فهي توحي بالرحمة، ومشاركة مشاعر الفرح والحزن، لأنها تقوم على التشابه في المشاعر.

 خاتمة

نعبر عن الصداقة في ألفاظ عديدة، كل منها يعطي صورة من صور الصديق، وتكشف جانبا من جوانب المفهوم، سواء تعلق الامر بالصدق، المحبة، التفاني، الاخوة، الحميمية، المدنية، التعايش أو الرحمة، دون أن تطغى العناية بأحد الجوانب على باقي الجوانب الاخرى من المفهوم. تؤسس الصداقة بصفة عامة للروابط العاطفية، أخلاقية، روحانية وفكرية بين الناس. قوامها الطبيعية الاجتماعية للإنسان-كما رأينا عند الكتاب المذكورين هنا-، طبيعة يستخدمها لتعميق وتجديد، وتساهم بذلك في النسيج الإجتماعي في الامبراطوية الاسلامية ف يالقرن الرابع الهجري، مجتمع تراجعت فيه العلاقات القبلية وبدأت تنشأ تجمعات مختلطة بعد الفتوحات خاصة. تبنى الصداقة التي تربط بين الاصدقاء إذن على طبيعة الانسان، وقدرة هذا االخير على تحديد ومعرفة مصلحته الخاصة، ورؤية ما يتشابه فيه مع غيره، الأنا الأخرى، والمساهمة في سعادة هذه الأنا الاخرى. أين تساهم في تطوير المهارات الانسانية، الصداقة : ".." (Ṣadāqa, p. 32)، عند نقل التوحيدي لكلام ابن عطاء البغدادي (ت.309/922)، تلميذ الصوفي الكبير ابو القاسم الجنيدي (ت.298/911)، ليقول انه عند البحث عن صديق بغرض الاستئناس، بفضل العلاقة التي يلتزم بها معه (Ṣadāqa, p. 68). في التبادل الودي بين الاصدقاء، يكثف الناس جهودهم، وينشطون افكارهم، ويتبادلون الاقوال. فيستأنسون في تعاملهم بالفضيلة مع بعضهم البعض، ويفكرون معا في الواقع ويتعارضون فيه، بعبارة أخرى الصداقة هي تبادل ما يمتلكه الناس من ميزات انسانية: اخلاقا، فكرا وقولا.

هيلين رايموند

 بيبليوغرافيا

Sources :

Abū Ḥayyān al-Tawḥīdī, al-Ṣadāqa wa-l-ṣadīq, Damas, éditeur: Ibrāhīm al-Kaylānī, Dār al-Fikr, 1996.

Abū Ḥayyān al-Tawḥīdī, Muqābasāt, Beyrouth, Dār al-adab, 1989.

Iḫwān al-Ṣafā', Rasā'il, Beyrouth, Dar Sader Publishers, 2006.

Miskawayh, Tahḏīb al-aḫlāq wa taṭhīr al-aʽrāq, le Caire, al-maktaba al-miṣriyya, 1964. Traduction: Mohammed Arkoun, Traité d'éthique, Damas, Institut français de Damas, 1988.

Références :

Aristote, Éthique à Nicomaque, Oxford, Oxford University Press, 1984.

Aristote, La politique, Paris, Vrin, 1977.

Mohammed Arkoun, L'humanisme arabe au IVe/Xe siècle, Paris, Vrin, 1982.

Cécile Bonmariage, « De l'amitié et des frères : l'épître 45 des rasā'il des Iḫwān al-Ṣafā' », in Arabica, 2009.

Shelomo D. Goitein, Formal friendship in the medieval Near East, Proceedings of the American philosophical society, vol. 115, n°6, 1971.

Lenn E.Goodman, Friendship in Aristotle, Miskawayh et Ghazali, in Friendship East and West, éd. Oliver Leaman, Richmond, Curzon Press, 1996.

Joel Kraemer, Humanism in the Renaissance of Islam, Leiden, E.J.Brill, 1992.

Yves Marquet, La philosophie des Iḫwān al-Ṣafā', Paris, S.E.H.A., 1999.

Salah Natij, « La nuit inaugurale de Kitāb al-Imtāʽ wa-l-mu'ānasa d'Abū Ḥayyān al-Tawḥīdī: une leçon magistrale d'adab », in Arabica 55, 2008.

Ian Richard Netton, Muslim Neoplatonists, London, Routledge Curzon, 2002.